تاريخ كربلاء

آراءُ المؤرِّخينَ واللغويّين في كربلاءَ وأسمائِها الأخرى

آراءُ المؤرِّخينَ واللغويّين في كربلاءَ وأسمائِها الأخرى

أعطى الموقعُ الجغرافيّ والبيئيّ المتميّز لكربلاءَ أهميّةً خاصّةً منذ أقدم العصور، فهي تنتمي إلى حضارةِ الأقوامِ الساميةِ في العراق، لا سيّما البابليّين منهم، وذلك لقربها من بابل، وكانت جسراً للهجراتِ الساميةِ والعربيّةِ بين بلادِ الشام والجزيرةِ العربيّةِ وبين سوادِ العراق، وهي أوّلُ مركز استيطان ساميّ عربيّ في منطقة الفرات الأوسط، وملتقى الطرق البريّة الرئيسة عبر منطقة عين التمر باتّجاه البلدان كافة. إنّ موقعَها في الجنوب الغربيّ لمدينةِ بغداد وقربها من مجرى نهر الفرات، ووجودها داخل منطقة مناخيّة معتدلة، لا في أقصى جنوب العراق ولا في أقصى شماله، إضافة لأراضيها الخصبة الصالحة للزراعة، قد جعلها موقعَ جذبٍ لبعض القبائلِ والجماعات والقوافل التي كانت تتجوّل في القسم الشرقيّ من شبه الجزيرة العربيّة، ممّا جعل منها أيضاً مركزاً لتجمّع سكانيّ قبل ظهور الإسلام بحقبة طويلة. وقد وُجِدَت لفظةُ كربلاء في المنحوتاتِ الأثريّةِ البابليّةِ التي عثرَ عليها الباحثون الأثريّون، فقيل إنّها منحوتةٌ من كلمة « كور بابل » وهي تعني مجموعة قرى بابليّة قديمة أشهرها وأكبرها (نِينوى) التي تقع إلى الشمال الشرقيّ من مدينة كربلاء الحاليّة- وهي غير نَينوى عاصمة الأشوريّين التي تقع في شمال العراق قرب مدينة الموصل - وكانت قريةً عامرةً في العصورِ القديمةِ، سكنها الساميّون، وهي الآن سلسلةُ تلالٍ أثريّة ممتدّة من جنوب سدّة الهنديّة على نهر الفرات التي تبعد عن كربلاء الحاليّة بنحو 30 كلم حتّى مصب نهر العلقميّ في الأهوار القريبة من مدينة كربلاء، وتعرف (بتلال نِينوى). وجاء في كتاب (مراصد الاطّلاع على أسماء الأمكنة والبقاع) ما نصّه: « إنّ بسوادِ الكوفة تقع ناحية تسمّى (نِينوى) منها كربلاء التي قُتِل فيها الإمامُ الحسينُ عليه السلام ». وقد جاء في كتاب (بغية النبلاء في تاريخ كربلاء)، أنّه يوجد على بضعة أميال في القسم الشمال الغربيّ من مدينة كربلاء، أطلالٌ وأُكَم قيل إنّها كربلاء الأصليّة، والجدير بالذكر أنّه قبل سني الحرب العالميّة الأولى كان بعض الأفراد من المناطق المجاورة لهذه المنطقة يستخرجون من هذه الأطلال طابوقاً (آجر) مسطّحاً كبيراً يطلق عليه محليّاً بالطابوق الفرشي يحملونه إلى كربلاء. واستمرت كربلاء على ازدهارها في عهد الكلدانيّين، فقد ذكر المستشرق الفرنسيّ لويس ماسنيون في كتابه (خطط الكوفة) إنّ كربلاء كانت قديماً معبداً للكلدانيّين في مدينة تدعى (نِينوى). وقد أسفرت التنقيباتُ الأثريّة عن اكتشاف آثار ومواقع كثيرة على أراضي كربلاء أقدمها مجموعة من كهوف ومغارات اصطناعيّة تقع على الكتف الأيمن لوادي (الطار) الذي كان يمثّل نهر الفرات القديم قبل أن توجد بحيرة الرزّازة، ويبلغ عددها ( 400) كهف تقريباً، وتبعد هذه الآثار عن مدينة كربلاء الحاليّة نحو (30 ) كلم إلى الجنوب الغربيّ في منتصف الطريق بين كربلاء وقصر الأخيضر، بامتداد الهضبة الغربيّة الصحراويّة، وقد قام الإنسان بنحتها وحفرها في حدود سنة ( 1200) قبل الميلاد، وربّما استخدمت لأغراض دفاعيّة أوّل الأمر، ثمّ اتخذت قبوراً فيما بعد. وإلى جانب ما تقدّم فإنّ كربلاء ظلّت مزدهرةً ومحتفظةً بمكانتها في العصور الغابرة، وخصوصاً في عهود التنوخيّين واللخميّين والمناذرة يوم كانت الحيرة عاصمة مملكتهم. يتّضح ممّا تقدم أنّ تاريخَ كربلاء موغلٌ في القدم، وأنّها كانت من أمّهات مدن طسوج النهرين الواقعة على ضفاف نهر بالاكوباس (الفرات القديم) وعلى أرضها معبدٌ للعبادةِ والصلاة، كما يستدلّ على قِدَمِها من الأسماء التي عُرِفَت بها قديماً كـ « عمورا »، و«ماريا»، و « صفورا » وقد كثرت حولها المقابر، كما عُثِرَ على جثثٍ بشريّةٍ داخلَ أوانٍ خزفيّة يعودُ تاريخُها إلى ما قبلَ العهد المسيحيّ. أمّا الأقوامُ التي سكنتها فكانت تعتمدُ على الزراعةِ لخصوبةِ تربتها وغزارة مائها وكثرة العيون التي كانت منتشرة في أرجائها. ومن الأدلّة أيضاً على قِدَم كربلاء أو قِدَم « الأكوار » (جمع كورة في تلك الجهات) هو وجود أطلال وهضبات لم تزل قائمة على بعد بضعة أميال عن كربلاء الحاليّة. وعندما استولى الساسانيّون على العراق في عهد سابور ذي الأكتاف (تاسع ملوك الساسانيّين) الذي اعتلى العرش سنة ( 310م ) قسّموا العراق على عشر أستانات (ولايات)، سمّي كلّ منها طسج (قضاء). وقُسّمت هذه الوحداتُ الإداريّةُ بدورها إلى وحداتٍ أصغر سُمّي كلٌّ منها رستاق (ناحية)، وكانت الأراضي الواقعة بين مدينة عين التمر التي تقع على مسافة 67 كلم من كربلاء إلى الجنوب الغربيّ منها ونهر الفرات هي الولاية العاشرة، وقد قسّمت على ستّ وحدات إداريّة، سُمّيت إحداها « طسج النهرين»، وسبب تسمية هذه الوحدة « بالنهرين » كونها واقعة بين خندق سابور ونهر العلقميّ. ويقال بأنّ كربلاء كانت قبيل الإسلام أيضاً تحتوي على بيوت ومعابد للمجوس، وكان يطلق عليها بلغتهم (مه بار سور علم) أي المكان المقدّس. ويستدلُّ ممّا تقدّم بأنّ كربلاء كانت على مرّ العصور أرضاً مقدّسة لدى ديانات مختلفة وعند أقوام متعدّدة؛ ولذلك كانت تنتشر فيها معابدُ كثيرةٌ للصلاة. يقولُ الدكتور مصطفى جواد المؤرّخُ واللغويّ العراقيّ المعروف: (( إنّ اسمَ كربلاء ليس عربيًّا وأنّ محاولات ردّه إلى الأصول العربيّة غير صحيحة وتصطدم بعقبات تاريخيّة ولغويّة، إذ إنّ موقعها خارج عن الجزيرة العربيّة، وأنّ في العراق كثيرًا من البلدان أسماؤها ليست عربيّة كبغداد وبابل وبعقوبا)). ويعتقدُ فريقٌ من المؤرّخين واللغويّين، أنّه يمكن ربط اسم كربلاء باللفظة الأراميّة كاربيلا المتّصلة بلفظة كربلاتو الآشوريّة أو كاربيل التي تعني سور الإله بيل. ويرى فريقٌ آخر من المؤرّخين واللغويّين، ومنهم الأب أنستاس ماري الكرمليّ، أنّ لفظ كربلاء ذُكر في كتبِ الباحثين ومنحوت من كلمتين آشوريّتين هما « كرب » بمعنى معبد أو حرم والكلمة الثانية « إل » بمعنى إله في اللغة الآراميّة ومجموع الكلمتين بمعنى «معبد الإله » أو « حرم الإله ». وذكر آخرون بأنّ لفظةَ (كربلاء) مشتقّةٌ من الكلمةِ العربيّة الكربلة أي رخاوة في القدمين، يقال: جاء يمشي مكربلاً، فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رخوة فسُمّيت بذلك، ويقال: كربلت الحنطة إذا هذّبتها ونقيّتها. ويقول الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ إنّ كلمة كربلاء متكوّنة من كلمتين هما « كار » أي الفعل و « بالا » بمعنى الساميّ والعلويّ باللغة الفارسيّة. وبذلك يكون معنى لفظة كربلاء « الفعل العلويّ » أو « العمل السماويّ » المفروض من الأعلى وهذا يقارب المعنى الذي ذهب إليه الأب أنستاس ماري الكرمليّ كما ذكرنا ذلك سابقاً. إنّ اسم كربلاء كان معروفاً للعرب قبل الفتح الإسلاميّ للعراق وقبل أن يسكنها العرب المسلمون وذكرها بعض المسلمين الذين رافقوا خالد بن الوليد عند فتح الجانب الغربيّ من العراق. وورد في معجم البلدان لياقوت الحمويّ أيضاً: إنّ كربلاءَ سُمّيت بالطفّ لأنّها مشرفةٌ على العراق، وذلك من أشرف على الشيء أي أطل، والطفّ: طفّ الفرات أي الشاطئ. وجاء أيضاً أنّ الطفَّ: أرضٌ من ضاحية الكوفة في طريق البريّة فيها كان مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام وهي أرضُ باديةٍ قريبة من الرّيف فيها عيون ماء جارية عدّة، منها (الصيد)، و(القطقطانيّة)، و(الرهيمة)، و(عين الجمل) وذواتها، وهي عيون كانت للموكلين بالمسالح (الحصون والقصور) التي كانت وراء خندق سابور الذي حفره بينه وبين العرب وغيرهم. وتشيرُ بعضُ المصادرِ التاريخيّة إلى أنَّ كربلاءَ الحاليّة المعروفة بهذا الاسم اليوم، كانت قبل الإسلام منطقة تحيط بها قُرى قديمة عند قدوم الإمام الحسين عليه السلام إليها عام 61هـ (680م) منها (نِينوى)، و (عَمورا)، و(ماريا)، و(صفورا)، و(شفية)، وكانت على مقربة من هذه القرى منطقة تُدعى (النواويس) وهي مجموعةُ مقابر للمسيحيّين الذين سكنوا هذه الأراضي قبل الفتح الإسلاميّ للعراق، وتقع هذه المقابر اليوم في شمال غربي كربلاء في أراضي الكماليّة بالقرب من المنطقة التي يقع فيها مرقد الحر بن يزيد الرياحيّ، وتشيرُ روايةُ مقتلِ الإمام الحسين عليه السلام إلى أنّ قوماً من بني أسد قد تولوا دفنه، ممّا يعني أن قبيلة بني أسد العربيّة كانت تسكن كربلاء قبل قدوم الإمام الحسين عليه السلام. وقد أطلق على مدينة كربلاء الحاليّة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في العام نفسه (61هـ) أسماء عدّة منها (مشهد الحسين)، و (مدينة الحسين)، و(البقعة المباركة)، و(موضع الابتلاء)، و (محلّ الوفاء)، و (الحائر)، و (الحِير) إلى غير ذلك من الأسماء، إلّا أنّ أشهر هذه الأسماء هو (الحائر) لما أحيط بهذا الاسم من الحرمة والتقديس، والجدير بالذكر أنَّ الحائرَ اختصّ فيما بعد بالمرقد المقدّس في الغالب. وإلى جانب تلك القرى الموغلة في القدم كانت توجد قرى أخرى عامرة بالسكّان والحياة، وكانت أكبر هذه القرى المحيطة بكربلاء هي بلدة (عين التمر) والتي تضمّ ناحية شثاثا ومنها يجلب القسب (التمر اليابس) والتمر. ومن القرى المحيطة بكربلاء أيضاً قرية الغاضريّة، وقد أُنشئِت بعد انتقال قبيلة بني أسد إلى العراق في صدر الإسلام، وعلى هذا فإنّها ليست قديمة في التاريخ، وهي لا تزال معروفة باسم « الغاضريّات » وهي الأراضي المنبسطة التي هي اليوم إحدى نواحي مدينة كربلاء، وتعرف بمنطقة الحسينيّة الواقعة على طريق كربلاء بغداد القديم عامرة ببساتين النخيل والفواكه. وكانت توجد قرية بالقرب من كربلاء عامرة بالمساكن تسمّى (العقر). وقد روي أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا انتهى إلى هذه الأرض قال لبعض أصحابه: ما تسمّى هذه القرية؟ وأشار إلى العقر، فقيل له: اسمها العقر، فقال عليه السلام: "نعوذ بالله من العقر"، ثمّ قال عليه السلام: فما اسم هذه الأرض التي نحن فيها؟ قالوا: كربلاء، فقال عليه السلام: "أرضُ كربٍ وبلاء"!، وأراد الخروج منها فمُنع كما هو مذكور في مقتله. وعلى أيّة حال لم تكتسب مدينةُ كربلاء الحاليّة هذه المكانة السامية والمنزلة المقدّسة التي لها الآن لولا استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وصحبه في اليوم العاشر من شهر محرّم الحرام سنة 61 هـ (680م)، في هذه البقعة التي تقع بين كربلاء القديمة في التاريخ والنواويس على وجه التحديد. وقد تنبّأ بذلك الإمام الحسين عليه السلام نفسه قبل أن يرد أرض كربلاء، إذ قال عليه السلام: "كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء". ولكن كلّ ما يمكن القول عن تاريخ كربلاء القديم عند الفتح الإسلاميّ: إنّها بقعةٌ زراعيّةٌ واقعةٌ على ضفاف نهر الفرات، والأقوام الذين سكنوها كانوا يعوّلون على الزراعة لخصوبة تربتها، وغزارة مائها لكثرة العيون التي كانت منتشرة في أرجائها.

صور من الموضوع ...

نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.

يمكنم الاتصال بنا عبر الهواتف ادناه :
00964-7711173108
00964-7602365037
او مراسلتنا عبر البريد الألكتروني :
info@mk.iq
media@mk.iq

للاستمرار، اكتب ناتج المعادلة الآتية :

للأسف، نتيجة خاطئة، حاول مجددا.


جاري التحميل ...

{{Msg.p}} ,
{{Msg.text}} .

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...