تاريخ كربلاء
تقنيّاتُ وأساليبُ البِناءِ في مدينةِ كربَلاء المقدَّسة

طُرُز البِناء اجتمعت في أبنيةِ مدينة كربلاء الشواهد الحيَّة لممارسةِ النَّشاط الفنيّ والتفوّق العمراني التي انتجتها المهارات الفنية عبر مختلف العصور، وقد تمثّل جزءٌ منها في طرُز البناء وعناصر الزخرفة والعناصر العَمارية المختلفة، كالمداخل والساحة المكشوفة والقباب وغيرها، ونظراً لوقوع مدينة كربلاء على مشارف الهضَبة الغربيّة فقد أثَّر ذلك في نمط العمارة وفي اختيار مواد البناء المحليّة كالآجر والحجَر والجص، لتكون المواد الرئيسة في البناء. ومن طرُز البناء القديمة في مدينة كربلاء المقدسة: الطِّراز الحيري الطراز الحيري، ويسمى ( الصدر والكُمَّين ) ويتكوَّن من ثلاثة أقسام متداخلة وهي الإيوان في الوسط (الصدر) وقاعتين جانبيتين (كُميَن) في الميمنة والميسرة يتقدّمها رواقٌ بثلاث فتحات تطلُّ على ساحة مكشوفة وقاعة خلفية في بعض الأحيان. وقد حاول البعض ارجاع هذا التخطيط في العمارة إلى أصول ساسانية، ولكن هذا التركيب البنائي كان معروفاً في العمارة العراقية القديمة ومنها في بيوت الحضَر، ويُعد ( بيت معنو ) من أوضح البيوت التي كشفت عنها التنقيبات الأثرية، فهذا البيت يتكوّن من فناءٍ مكشوف مربّع الشكل تقريباً يطلُّ عليه في كلٍّ من الجهتين الشمالية والجنوبية إيوان، كما يطلُّ عليه من الجهة الغربيَّة رواق، وفي الجدران والأواوين أبوابٌ عدّة تؤدي إلى المرافق الأخرى للبيت ومنها غرفتان للحرس، كما وُجد مثل هكذا تخطيط في بيوت السَّكن في المدائن التي تعود إلى العصر الفَرثي في العراق (247ق.م-226م). كما تميَّز هذا الطرازُ في البيوت والقصور والمعابد العراقية على مرِّ العصور، ولعلَّ سبب ذلك يعود إلى ملائمته للبيئة والمناخ، فكانت تلك البيوت تُستغلُّ في مواسم محددة، وكان الجناح الذي يقابل الشمال يُسكن في فصل الصيف حيث تهبُّ عليه الرياح الباردة، أمّا الجناح الذي يقابل جهة الجنوب فيستعمل في فصل الشتاء، حتى يأتيه الهواء الدافئ من الجهة الجنوبية، وكانت الساحة المكشوفة (الصحن) تؤدّي دوراً هامّا في عملية التنظيم هذه وفي عملية توزيع الضوء أيضا، فضلاً عن تطابق الوظيفة التي توخّاها المعمار بما ينسجم مع القيَم الفكرية والعادات والتقاليد الاجتماعية. أمّا سبب نسبة هذا الطراز إلى الحيرة فيرجع ذلك إلى أنَّ فنَّ العمارة في الحيرة بلغ درجة عالية من التقدّم والاتقان، إذ ليس بمستغرب تأثر فن العمارة في العصر الإسلامي بالعمارة والفنون التي كانت منتشرة في الحيرة، وإذا ما اخذنا بنظر الاعتبار أنَّ تخطيط القصور والمساكن ما هو إلّا استمرارٌ للتخطيطِ الذي عُرف في مناطق أخرى من العراق قبل حضارة الحِيرة بقرون، ولكن فن العمارة بشكل عام في حالةٍ من التطوّر والتغيير، وهذا ما نلحظ أثره في الحيرة إذ بدا بشكل جليٍّ وواضح، ومن المحتمل أنّ بعض الأبنية التي شيِّدت في بغداد قد اسُتعمل في بنائها الطراز الحيري، ولكن الأمر يختلف عن ذلك في بغداد حيث وجدت العديد من الطرز البنائية المختلفة. استعمل الطراز الحيري أوضح استعمال في مباني مدينة كربلاء حيث تجسَّد هذا الطراز في قلعة البردويل في قضاء عين التمر، وعلى ما يبدو أنَّ بيوت السكن في مدينة كربلاء قد استعمل فيها الطراز الحيري أيضاً، إذ أصبحت الساحة المكشوفة هي المركز الأساس في هذا التخطيط وحولها حجرات البيت، وتكاد تكون هذه البيوت شبيهة ببيوت وسط وجنوب العراق، كما وجد هذا الطراز في بيوت قصـر الأخيضر الأربع، واستعمل في قصر عطشان أيضاً. طراز الإيوان الإيوان بالإصطلاح اللّغوي هو كلُّ مجلسٍ واسعٍ مظلّل وجمعُها أواوين، أما الإيوان من الناحية العمارية فهو بناءٌ مستطيل الشكل له ثلاثةُ جدران والجهة الرابعة مفتوحة تماماً للفضاء الخارجي، أو قد تكون مصفوفة بأعمدَة يتقدَّمها رواقٌ مفتوح، وتطلُّ على الساحة المكشوفة (الصحن). وقد استطاع المعمارُ أنْ يوظِّف هذا الطراز في العديد من المباني كالقصور والمعابد والبيوت وذلك لكون الإيوان يتلاءم مع مناخ العراق الحار الجاف صيفاً والبارد المُمطر شتاءً، فلو بُني الإيوانُ ليواجهَ جهة الشمال فإنَّه يوفِّر الظلَّ ويسمحُ بدخولِ الهواء الباردِ في فصل الصيف، أمّا إذا بُني ليواجه جهة الجنوب فإنه يسمحُ بدخول أشعَّة الشمسِ المائلة في الشتاء وبذلك فإنّه يوفِّر الحماية اللازمة من الرياح الشمالية الباردة، حيث كان يُستخدم كمكان للقيلولة أثناء النهار صيفاً في حال كان البيت خالياً من السرداب، كما إنّه كان يسهِّل على ربّة البيت التنقّل داخل البيت فيما لو تم استقبال الضيوف في الإيوان، فضلاً عن كونهِ مكاناً لتجمّع العائلة. ويعدُّ الإيوان عنصر عماري هام في البيوت، وإنّ الدار التي لا تحتوي على إيوان لا تُعدُّ دارٌ للسكن، واستعمل الإيوان منذ زمنٍ مبكِّر في العمارة العراقية حيث وجد في تل الصِّوان في الألف السادس ق.م، واستمر ظهوره في سلسلة غير منقطعة حتى تبلوَر بشكل كبير في أبنية الحضر، إذ أكثر الحضريون من استعماله في أبنيتهم الدينية والمدَنية واقتبست الأمم الأخرى كالفُرس والروم هذا العنصـر واستخدموه في عمائِرهم. أمّا في العصر الإسلامي فقد بقي الإيوان مستعمَلاً من قبل المعمار فقد وجد في عَمارة المرقد الحُسيني والمرقد العبّاسي المقدّسين حيث وجدت العديدُ من الأواوين التي تحفّ بالساحة المكشوفة (الصحن) حيث كانت الأواوين تعلو أرضية الصحن قليلاً، أمّا في قصـر الأخيضر فقد وجد أكثر من ايوان، منها الإيوان الكبير الذي يتوسَّط القصر ويقع في الجهة الجنوبية، وايوان دار الأمير الذي يقع في الجهة الشرقية بين جدار القصر والسور الذي يحيط به، كما وجد في بيوت قصر الأخيضر ومنها البيت الشَّمالي الشرقي الذي يحتوي على ايوانين أحدهما شمالي والآخر جنوبي، كما وجد هذا الطراز في قصر عطشان حيث كان الإيوان مربَّع الشكل تقريباً. طراز الرّواق الرّواق لغةً هو مقدمة البيت، والرواق بيتٌ كالفسطاط يحمل على سطح واحد في وسطه أو سقف في مقدَّمة البيت وقيل دون السقف، ورواق البيت ستره من أعلاه إلى الأرض وجمعه أروقة. أمّا الرّواق من الناحية المعمارية فهو فضاءٌ نصف مفتوح على شكل ممر محصور بين التركيبات البنائية والتي يتقدمها صفٌّ من الأعمدة أو الدعامات في جهته المطلَّة على الساحة المكشوفة، أو الممر القائم بين صفّين من الأعمدة أو الدعامات. وكان الرّواق يُقام في مقدّمة الإيوان في الدَّور الأول وأمام الغرف في الدَّور الثاني، ويكون على شكل ممر مكشوف الوجه وسقفه معقود من الأعلى بمجموعةٍ من العقود. كما كانت تطلُّ على جانب واحد أو جانبين، أو إنها تطلُّ على الصحن من جميع جهاته في بعض الأحيان، وكان الهدف من استعمال الرّواق هو من أجل توفير مساحات مظلَّلة تحيط بالصحن، وكذلك للحماية من الأمطار في فصل الشتاء. كما وجد الرّواق في عمارة المراقد المقدسة في كربلاء حيث بُني رواق عمران بن شاهين سنة ( 369هـ/980م) في الضلع الغربي من حرم الإمام الحسين -عليه السلام- ويشير ابن كثير إلى وجود أكثر من رواق في المرقد الحُسيني المقدّس في سنة ( 407هـ/1016م) بقوله (في ربيع الأول منها احترقَ مشهد الحسين بن علي بكربلاء وأروقته). كما بُني رواق حبيب بن مظاهر الأسدي في الواجهة الإمامية للمَرقد المطهر. طراز السقيفة السقيفة وتسمى أيضاً (الصُّفّة) ويُعرف هذا الطراز أيضاً بالطراز البازيلكي، أو الطراز الكنَسي، وهو نظام عماري يمتاز بالمحور الطولي الذي يتكون من صفّين أو أربعة صفوف من الأعمدة تشكِّل ثلاثة أو خمسة أروقة أعرضها الرّواق الأوسط الذي ينتهي بحَنية نصف دائرية تسقَّف بنصف قبَّة، في حين يسقف الرّواق الأوسط بجملون خشبي بارتفاع أعلى من الأروقة الجانبية التي تكون نصف جملونية. لقد عرفت العمارة العراقية هذا الطراز من التسقيف حيث وجدَ المنقبون وجود مثل هذا الطراز في عمارة المعبد العراقي القديم ومنها معبد الإله أنانا في مدينة الوركاء، واستمر هذا الطراز في المساجد الإسلامية الأولى وإلى مدة زمنية متأخرة، والسبب في ذلك يعود إلى المنافع المتوخّاة منه من خلال توفّر مساحات مظلّلة تحيط بالساحة المكشوفة لتخفيف حرارة الشمس صيفاً وتوفير الحماية من الأمطار شتاءً. وفي مدينة كربلاء فقد وُجد هذا العنصر العَماري في الكنائس التي كانت في كربلاء مثل كنيسة القصير التي احتوت على سقيفة واحدة أو أكثر ولكن هذه الكنيسة تعرّضت للاندثار، كما وجدت السقيفة على قبر الإمام الحسين -عليه السلام- والدليل على ذلك قول الإمام الصادق -عليه السلام- ( ثم تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ إليهم أجمعين، وتقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..) كما وجدت سقيفة على قبر أبي الفضل العباس -عليه السلام- ويتَّضح ذلك من قول الإمام الصادق -عليه السلام- عندما يتحدَّث عن زيارة قمر بني هاشم، قائلاً ( ثم امشِ حتى تأتي مشهد العباس بن علي -عليهما السلام- فاذا أتيته فقف على باب السقيفة، وقل: سلامُ الله وسلامُ ملائكتِهِ المقرَّبين ...) أمّا في قصور كربلاء فلم تكشف التنقيبات الأثرية عن وجود سقيفة في قصر مقاتل وقصر عطشان، أما قصر الأخيضـر، فقد وجدت السقيفة فيه في أكثر من مكان.
صور من الموضوع ...
نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.