تاريخ كربلاء
كربلاء .. ومُنطلقات التسمية

أوّلًا: المُنطَلَق الدِّيني أنْ تقفَ كربلاء على العتبات الفاصلة بين حجابات الأديان والمذاهب المختلفة أمرٌ لا يمكن أنْ يكون اعتباطيّاً، إنّه السـر وراء كون كربلاء سبباً من أسباب لقاء الأديان والمذاهب وتفاعلها فيما بينها، مجَّسدةً بمقدار محبَّة الناس لشخص سيِّد الشهداء الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس- عليهما السلام فهي أرضٌ قدّستها وباركتها جميعُ الأديان، فكان أنْ أُطلقت عليها العديد من الأسماء، ومنها: كَربٌ وبَلاء يبدو أنَّ هذه التسمية كانت متداولة قديماً، إذ اتَّفقت جميعُ الحضاراتِ المتعاقبة على أنَّ هذه المنطقةَ مقدسةٌ، وأنَّ فيها حدثاً كبيراً قد وقع، وهذا الخطبُ الكبير يشيب لهولِه الطفلُ الرَّضيع، حيث إنَّ واقعة كربلاء عُرضت على جميع الأنبياء (صلواتُ الله عليهم أجمعين) لذلك عندما مرَّوا على أرض كربلاء، أُصيبوا بشيءٍ من الكَرب والبَلاء، والكربُ في اللغة على وزن الضَّرب من الحزنِ والهمِّ والغم الذي يأخذ بالنفس، وجمعه كروب، وعند سيبويه (كرب) هو أحد الأفعال التي لا يستعمل اسم الفاعل منها موضع الفعل الذي هو خبرها، و(كرُبَ) أي قَرُبَ من ذلك ودنا وكل دانٍ قريب فهو كارب، وكلمة ( بلا ) قال عنها ابنُ الأعرابي ( أبلى ) بمعنى أخبر، وابتلاه الله سبحانه أي امتَحَنه، والاسم البلوى والبلوةُ والبليَّةُ والبَلاء، والبلاء يكون في الخير والشَّر، فقيل إنّها مدينة كرب وبلاء. وهناك رأي يقول: إنَّ النبيَّ الأكرم محمد-صلى الله عليه وآله وسلّم- كان قد أطلق هذا الوصف على هذه المنطقة، فعن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق - عليه السلام - قال: ( كان الحُسين -عليه السلام- مع أمِّه تحملُه، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: لعنَ اللهُ قاتليك، ولعنَ اللهُ سالبيك، وأهلك اللهُ المتوازرين عليك، وحكمَ اللهُ بيني وبين من أعانَ عليك، فقالت فاطمة: يا أبه أيُّ شيءٍ تقول، قال: يا بنتاه ذكرتُ ما يصيبه بعدي وبعدكِ من الأذى والظلم والغدر والبَغي، وهو يومئذٍ في عُصبةٍ كأنَّهم نجوم السَّماء يتهادون إلى القَتل، وكأنّي أنظر إلى معسكرِهم وإلى موضع رِحالهِم وتربتِهم، فقالتْ: يا أبه وأين هذا الموضع الذي تصف، قال: موضعٌ يقالُ لهُ كربلاء، وهي ذات كربٍ وبَلاء علينا وعلى الأمة..). البقعة المباركة هناك أماكن عباديّة اختارها اللهُ سبحانه وتعالى وكرَّمها وهي الكعبةُ المشرَّفة في مكة المكرَّمة، والمسجد النَّبوي في المدينة المنوَّرة، والمسجد الأقصى في القدس، ومسجد الكوفة بالنجف الأشرف، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق -عليه السلام- قال: (إنَّ بقاعَ الأرض تفاخرتْ ففَخرت الكعبةُ على البُقعة بكربلاء فأوحى اللهُ إليها اسكُتي ولا تفتَخري عليها فإنّها البُقعة المباركة التي نوديَ منها موسى من الشَّجرة وإنَّها الرَّبوة التي آوت إليها مريم والمسيح، وإنها الدالية التي غُسل فيها رأس الحسين - عليه السلام - وفيها غَسَلت مريم عيسى واغتسلت لولادتها). أرضُ العُبور أرضُ الذين عَبروا النهر منها، ويبدو إنَّ هذه الحادثة كانت لأقوام من العبريين سَكنوا جنوبَ بلاد الرافدين في مدينتي أور وأريدو، وبعد أنْ علِموا أنَّ الأقوامَ العِبرية التي ينتمون إليها، هاجرت من شبه الجزيرة باتجاه بلاد الشام، وقد كان عابرُ بن تارخ الجد الأكبر لنبي الله ابراهيم -عليه السلام- كان عميدُهم ومَن معه من رهطِه وعشيرته، تلك الأقليَّة التي كانت تسكن في جنوب العراق فأراد أنْ يلتحقَ بأهلهم، وعندها عبروا نهرَ الفرات باتجاه الشمال الغربي من مدينتي أور وأريدو إلى وادي حوران غربي الفرات، وعند مروره بمدينة السماء (كربلاء) لعلَّه مكث فيها، فسُميت هذه المنطقة تبَعاً لساكنيها الجدد، لذلك اطلقت هذه التسمية بعد هذه الحادثة ( أرض الذين عبروا النهر). أرضُ النّاجينَ من الطوفان تنطبق هذه التسمية على هذه المنطقة (كربلاء وذلك بعد حادثة الطوفان الذي غمر هذه المنطقة في الألف الخامس قبل الميلاد، بعد هذه الحادثة سأل النبيُّ نوح -عليه السلام - اللهَ سبحانه وتعالى، أن ينزلَه منزلاً مبارَكاً، فكانت كربلاء المنزل والملاذ والأمان من أيِّ طوفان آخر قد يحدث في قابل الأيام، وهذه إشارة إلى أرض النَّجاة. أرضُ الانتظار امتازت كربلاء عن بقاعِ الأرض بأنها أرضُ انتظار النُّصرة والشهادة والفداء، فقد كانت مهيأةً لاستقبال قداسة (سيّد السماء) الإمام الحسين -عليه السلام- وقد ورد في الحديث الشريف (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). كربلاء هي ترعةٌ أو روضةٌ من رياض الجنة، فمِن الطبيعي أنْ يتسابقَ أهلُ الايمان والبِّر والتقوى إلى محلِّ نزول الرَّحمة والمغفرة والشهادة بين يدي ابن بنت رسول الله الإمام الحسين -عليه السلام- لذلك كانت وما زالت هذه البقعة من الأرض هي محلّ انتظارٍ للشهادة والتضحية والفداء. أرضُ الله المُختارة ورد عن الإمام الصادق- عليه السلام - أنَّ كربلاء هي ليست كبقيَّة بقاع الأرض ولا يمكن القياس عليها لما لها من منزلةٍ عظيمةٍ عند الله سبحانه وتعالى، ولأن الله عزَّ وجلَّ اختارها فهي إذن أرضٌ مقدَّسةٌ، كذلك اختار اللهُ الحسين -عليه السلام- ليكون قربانها، فالتقت قداسةُ الأرض مع قداسة أبي عبد الله - سلام الله عليه- فضلاً عن أنّها البقعةُ المباركةُ التي نوديَ منها كليمُ الله موسى- عليه السلام- من الشَّجرة المُباركة المقدَّسة، وهي الرَّبوةُ والقَرار المعين التي آوت إليها مريمُ والمسيح، وإنَّها الدالية التي غُسل فيها رأسُ الامام الحسين -عليه السلام- واختيار هذه المنطقة من الله تعالى، فهي بذلك تكون أرضُ الله المختارة. مَكاناً قَصِيّاً عن الإمام علي بن الحسين- عليه السلام- في تفسير الآية القرآنية الشريفة ((فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا)) سورة مريم: آية 22، قال: خرجت أمُّ عيسى -عليها السلام- حتى أتتْ كربلاءَ فوضعتْهُ في موضع قبر الحسين -عليه السلام- ثم رجعَت من ليلتها. ورد في الآية الكريمة أنَّ المكانَ يقع في جهةِ الشَّرق بملاحظة قولهِ تعالى((وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا)) سورة مريم: آية 16، وفي هذا الشرق ليس بالقريب وإنّما هو (قَصيّا)، فهناك رابط مهم وهو النَّخلة المثمرة بالرَّطب الجَني كما وُصِف في القرآن الكريم، كما أنَّ هناك الرَّبوة والقرار والمعين ، إذ أنّ هذه الآية أشارت بوضوحٍ إلى مدينة كربلاء التي تقعُ على ربوةٍ -أي المكان المرتفع- فإليها يلجأ الخائفُ والمحرومُ والجائعُ. النواويس مفردها ناووس على وزن فاعول، والنواويس هي مقابر للنصارى الذين سكنوا كربلاء قبل الاسلام، وقد ذكرها الإمام الحسين -عليه السلام- في خطبته حينما عزم على الخروج من مكة إلى المدينة متوجِّها إلى العراق، إذ قال سلام الله عليه(( كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء)). جبلُ النَّصر عندما انتصر الدمُ على السيف وانتصر الصَّبر على القتل فكانوا جبلَ صبرٍ ونَصرٍ في الدارين، دار الدنيا ودار الاخرة، ومن اللافت للنظر أنَّ كربلاء تضم تضاريس متنوعة من أهمها التلال التي تقع إلى الجهة الغربية من مدينة كربلاء. قبَّة الإسلام روي عن الإمام الصادق -عليه السلام- أنَّ كربلاء هي قبَّة الاسلام، فلا غرو أنْ تكون كربلاء المقدسة جامع للأطياف والتيّارات الاسلامية فضلاً عن بقية الأديان السماوية، والسلام دين الله في الأرض ولا فرق بين أنبياء الله ورُسله ( صلوات الله عليهم أجمعين ) وكتبه. الحرَم الآمن عن الإمام علي بن الحسين السجاد -عليه السلام- أنَّه قال (( اتّخذ اللهُ أرضَ كربلاء حرَماً آمناً مباركاً قبل أن يخلقَ اللهُ أرض الكعبة ويتَّخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام، وأنه إذا زلزل اللُه تبارك وتعالى الأرض وسيَّرها رُفعت كما هي بتربتها نورانية صافية، فجُعلت في أفضل روضةٍ من رياض الجنة وأفضل مسكنٍ في الجنة لا يسكنها إلّا النبيّون والمرسلون وإنها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب الدرّي بين الكواكب لأهل الارض، يغشي نورها أبصار أهل الجنة جميعاً، وهي تنادي : أنا أرضُ الله المقدسة الطيبة المباركة التي تضمنت سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة)). أرضُ القُربان وهي إشارة إلى قول مولاتنا زينب -عليها السلام- في اليوم العاشر من المحرَّم الحرام حينما رأت جثمان أخيها الإمام الحسين -عليه السلام- فقالت : (( اللّهمَّ تقبَّل مِنّا هذا القُربان )) وكما هو معلوم أنَّ القرابين هي موروثٌ حضاريٌّ عراقي، إذْ كانت القرابينُ تقدَّم إلى المعبود لقبول الطاعات ورضاه، وهذا ما ورد أيضاً في القرآن الكريم عن قصة ابني آدم عليه السلام- عندما قربا قرباناً إلى الله سبحانه وتعالى فتقبَّل من أحدهما، إنَّ اللهَ يتقبَّل من المتَّقين. شاطئُ الفرات عن عبد الله بن يحيى الحضرَمي عن أبيه (أنّه سافر مع الإمام علي -عليه السلام- وكان صاحب مطهرته حتى حاذى نينوى وهو مُنطلِق إلى حرب صفّين، فنادى صبراً أبا عبد الله بشاطئ الفرات، قلتُ وما ذاك؟ قال: دخلتُ على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ذات يوم وعيناه تفيضان، فقلت هل أغضبك أحدٌ يا رسولَ الله؟ قال: قام من عندي جبرئيل -عليه السلام- فأخبرني أنَّ ابني الحسين يُقتل، ثم قال: هل لك أنْ أُريكَ مِن تربته؟ فقلتُ نعم. فمدَّ يدَه فلمّا رأيتها لم أملك عينيَّ أنْ فاضتا). محلُّ الوَفاء لم تؤشر أحداث كربلاء عن أيِّ تخاذل أو تراجع من أهل بيت النبوّة فضلاً عن الأنصار، إذ عُرف عنهم الشجاعة والبَسالة وكانوا يستأنسون بالموت استئناس الرضيع بثدي أمّه، وكان أبو الفضل العباس -عليه السلام- تاجَ الوفاء والصبر والتضحية دون أخيه الإمام الحسين -عليه السلام- فكانت تلك الأرواح فداءً لروحه الطاهرة. مَوضعُ الابتِلاء إنّ الله سبحانه وتعالى ابتلى عبادَه فكانت كربلاء منطقة الابتلاء، وفي خطبةٍ تُنسب إلى السيدة فاطمة الصغرى بنت الإمام الحسين -عليهما السلام- وقد وجَّهت هذه الخطبة لأهل الكوفة، فقالت فيها: (( إنّا أهل البيت ابتلانا اللهُ بكم، وابتلاكم بِنا، فجعلَ بلاءَنا حسنا)) فكانت كربلاء موضعَ ابتلاءٍ لمن لم ينل الشهادة بين يدي سيد شباب أهل الجنة -عليه السلام- .
صور من الموضوع ...
نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.