العلاّمــةُ الخطـيب مثال الزهد وعنوان التقوى
التاريخ : 16 / 6 / 2016        عدد المشاهدات : 1479

لقد خلَّد التاريخ رجالاً أفنوا حياتهم في خدمة المجتمع والدين ، فلا زالت آثارهم باقية وصدقاتهم جارية بما أخلفوه مِن علمٍ وعمل ، ولا زالت   أسماؤهم، وسيَرهم العطرة تتردَّد على ألسن الفضلاء والنُّبلاء، ومن هؤلاء المجتهد الشيخ محمد بن داود بن خليل بن حسين الجشعمي آل الخطيب الَّذي سكنت أُسرته كربلاء في أوائل القرن الثالث عشر الهجري نازحة من الحجاز، واستقرت في  بستان الخطيبية خلف محلَّة باب الطاق من خارج سور كربلاء القديم، و امتدت خيمها آنذاك حتى اتصلت بباب الزينبية وهو أحد أبواب الصحن الحسيني الشريف من جهته الغربية، وقد أنجبت هذه الأسرة العلماء والفضلاء ، ومنهم المجتهد الشيخ محمد الخطيب الذي ولد سنة 1301هـ، وقد كان أبوه العلاّمة الشيخ داود الخطيب فاضلاً أديبًا وشاعرًا ؛ لذا نظم بمناسبة ولادة ولده قصيدة منها الأبيات التالية مشيرًا فيها إلى تاريخ ولادته:

هطلتْ سَحابةُ برِّها ونوالِها                 وكواكبُ السَّعدِ استنارَ ضياؤها

والدَّهرُ أقبل بعد طولِ غيابِهِ                 والجَدبُ زال وأخصَبَت غبراؤها

جاء البشيرُ مُهنئًا مُذ أرخوا                    (فازت بيُمْنِ محمدٍ خطباؤها)

لقد نشأ الشيخ محمد الخطيب منذ نُعومة أضفاره في أسرةٍ علمية، كان لها الأثر الكبير في نشأته واكتسابه الأخلاق الحميدة، واهتمامه المستمرّ بالعلم والعلماء ، فدرس  في المدرسة الزينبية على يد العالم والشاعر جعفر الهر المتوفى سنة 1347هـ، وهذه المدرسة تأسستْ عام 1276هـ, مِنْ قبل السلطان ناصر الدين القاجاري، وسميت بهذا الاسم لوقوعها بجانب باب الزينبية ، ولا أثر لها اليوم فقد اضطُرَّ إلى  تهديمها سنة 1368هـ لغرض فتح الشارع المحيط بالروضة الحسينية،  كما درس الشيخ محمد الخطيب على يد العلامة ميرزا حسين المرندي، وبعد أن أنهى المقدمات لازم علماء عصره الأعلام والمجتهدين العظام لدراسة الفقه والأصول كالعلاّمة الكبير السيد إسماعيل الصدر، وأمثاله حتَّى حصل على اجازة الاجتهاد،  وأول من أجازه أستاذه العلامة الكبير الشيخ فتح الله الغروي الشهير بشيخ الشريعة عام هـ 1337وعمره 37عاماً، ثم أجازه ثانياً أساتذته الكبار كلّ من العلامة السيد محمد البحراني والشيخ كاظم الآخوند والسيد كاظم اليزدي والشيخ محمد حسين النائيني (رضوان الله عليهم)، وقد قلَّده بعض المؤمنين بعد حصوله على مرتبة الاجتهاد.

وأما سيرته فكانت مثالاً للاقتداء مِن حيث العلم والزهد والتقوى والصلاح والجهاد، ورغم مسؤولياته الجسيمة ومشاغله الكثيرة فقد كان الشيخ محمد الخطيب يصلِّي بالمؤمنين في صحن سيد الشهداء الحسين عليه السلام، ويجيب عن أسئلتهم، ويحلّ مشاكلهم، ويقبل عليهم بوجه صبوح طلق يشاركهم بتواضعه في أفراحهم و أحزانهم ويتعاطف معهم، وكان يولي كلَّ فردٍ من جُلسائه اهتمامًا خاصًّا فأحبَّه الجميع لإحساسهم بأنَّ لكلِّ واحد منهم مكانًا مرموقًا في صميم قلبه.

كان رحمه الله مرجعًا دينيًا مشهورًا  قويّ الحافظة سديد الذاكرة ، حسن المحاضرة سريع الفهم زاهداً تقيّاً يغلب عليه السكون والوقار والهدوء ، تراه مُكباً على التدريس والتأليف، وكانت حلقات تدريسه في مدرسة الزينبية ، ثمَّ أسس مدرسته المسماة باسمه (مدرسة الخطيب) في محلة المخيم, الَّتي كانت تتكوَّن من طابقين ، وتتألف من خمسة صفوف ،وكانت تُدَرَّس فيها علوم اللغة العربية والعلوم الدينية ، وقد تخرَّج من هذه المدرسة عددٌ من الشخصيات والعلماء والخطباء والمدرسين الأفاضل في الفقه والأصول والخطابة والأدب من الذين زخرت بهم الساحة الكربلائية، ولا أثر لهذا المدرسة اليوم بسبب التوسعة العمرانية والتطور المعماري الذي تشهده العتبات المقدسة في المدينة خدمة للزائرين الكرام.

وكان للشيخ محمد الخطيب مكتبة كبيرة تحتوي على مخطوطات ومؤلفات عديدة عنى بها عناية كبيرة و اشترى كلّ ما وسعه أن يشتري من الكتب المطبوعة والمخطوطة حتَّى أصبحت تسمَّى باسم الشيخ الخطيب كمؤسسة جديدة، ولمَّا مات الشيخ محمد الخطيب آلت المكتبة إلى خلفه ولده الشيخ عبد الحسين، ولكن للأسف الشديد أنَّها تعرضت للسرقة والتخريب ولم يبقَ منها إلَّا اليسير، وقد ترك الشيخ مؤلفات وهي:

صحاح الخبر في الأدلة على إمامة الأئمة الاثني عشر، رسالة في حضانة الطفل، رسالة في مناسك الحج والعمرة، رسالة في طلاق المريض، رسالة عملية في إتمام الصلاة والطهارة، الدورة الفقهية في أحكام الجعفرية (دورة كاملة) وهي عبارة عن بحث استدلالي، رسالة في طب النبي(تفسير للقرآن الكريم)، التذكير في شرح التبصرة، رسالة في صلاة الجمعة، رسالة في أجوبة الأسئلة الطهرانية.

وأمَّا أشهر تلاميذه فهم حجة الإسلام السيد علي الكاظمي، وحجة الإسلام السيد محمد مهدي الشيرازي، و العلامة السيد عباس الكاشاني، والعلامة السيد محمد علي نجل آية الله السيد محمد هادي الميلاني، والعلامة السيد مرتضى الموسوي و السيد صدر الدين الشهرستاني، والسيد مرتضى القزويني، والسيد محمد كاظم القزويني، والشيخ عبد الزهرة الكعبي، والشيخ مجيد الهر وغيرهم من العلماء والفضلاء.

ولقد جالس المرحوم الشيخ الخطيب إبّان صباه الأدباء والشعراء، فشاركهم، وولع بالشعر والأدب كثيرًا حتَّى برع في الشعر، فله قصائد في مدح أهل البيت عليهم السلام، ومن تلك القصائد قصيدة ألَّفها عند زيارته الإمام الرضا عليه السلام يقول فيها:

قد حللنا مُدةً في أرضِ طوسْ              أقبلتْ في تُربها شمسُ الشموسْ

هي روضٌ في رياضٍ من ورود              هي مأوى للورى مَحيا النفوسْ

مهبطُ الأملاكِ من عرشِ الجليلْ

هي في تربتها مولى به                 كم شفى اللهُ مريضًا وبه

كشف الضّرَّ لمن حلَّ به                   وبه نال المُنى من ربه

هو كهفٌ و غياثٌ للنَزيلْ

سيدٌ عمّت عطاياهُ الورى                   لم يَخِبْ قطّ إليه مَن سرى

بنوالٍ من مزور وقرى                        فاز في الدُّنيا و للأخرى اشترى

عرِّجِ الركبَ إليه يا دليلْ

ومنها في شأن واقعة الطف يقول فيها:

وتنادي كلَّ صبحٍ ومسا                    أنجُماً بالطفِّ غارن طمساً

رفعتْ منه العوالي أرؤساً                    وتُقاسي في الحشى نارَ أسى

ومنها في شأن الحجة (عجل الله تعالى فرجه) يقول فيها:

نارُ قلبي لمْ تزلْ تستعرُ                ليس تطفيها دموعُ أبحُر

لإمامٍ بالنوى مستترُ                       كم أناديه ودمعي يقطُرُ

يا إمامَ العصرِ أنتَ المَظهَرُ                    قدرةً لله وهو الأقدرُ

وكانت للمرحوم الشيخ محمد الخطيب مواقف مشهورة ضد الظلم والطغيان منها اشتراكه في ثورة العشرين ، وقد أفتى بوجوب الجهاد ضد المستعمرين سنة 1941م ، وقد كان لفتواه الأثر الكبير في النفوس لمكانته العلمية ومنزلته الدينية، كما أفتى سنة 1948م بالجهاد ضد الصهاينة في فلسطين، وقد شهدت له كربلاء مآثرَ خالدة ومواقف مشهورة في إعلاء كلمة الحق والدين.

توفي آية الله الشيخ محمد الخطيب يوم الخميس 17 رجب سنة 1380هـ، المصادف 5كانون الثاني سنة 1961م، وقد لبست كربلاء في ذلك اليوم ثياب الحزن وعُطِّلت فيها الأسواق ، وأذيع خبر وفاته بواسطة إذاعة الجمهورية العراقية فشاع الخبر وتوافدت وفود المشيّعين من باقي المحافظات ، وشيّع تشيعًا كبيرًا حضره رجالُ الدين والشخصيات العسكرية و زعماء العشائر و منتسبو القنصلية في كربلاء وعدد غفير من المؤمنين، ودفن في مقبرة آل الخطيب عند باب الرجاء في الجنوب الشرقي من الصحن الحسيني الشريف، وقد أرَّخ وفاته الشيخ محمد علي اليعقوبي بالأبيات التالية:

أيُّ قبرٍ ثوى محمدٌ فيه                   قد حوى من سما العلا أيّ فرقدِ

أيُّ روحٍ قدسيّة فيه حلَّت                          ولها في الجنان أرفعُ مرقدِ

ما حواه الصعيدُ أرَّختُ (لكن                     صعدتْ للفردوس روحُ محمدِ)

1380  

ثمَّ أقيم له احتفال تأبيني بمناسبة مرور أربعين يومًا على وفاته في مدرسته (مدرسة العلامة الخطيب) حضره جمعٌ من رجال الدين و الأدباء والشعراء، وقد طُبعت القصائدُ و الكلمات التي ألقيت في هذا الاحتفال في كتاب يحتوي على مائة وخمسين صفحة.


د . احسان الغريفي


اتصل بنا
يمكنكم الاتصال بنا عن طريق الاتصال على هواتف القسم
+964     7602326873
+964     7721457394
أو عن طريق ارسال رسالة عبر البريد الالكتروني
media@mk.iq
info@mk.iq

تطبيق المعارف الاسلامية والانسانية :
يمكنكم ارسال رساله عن طريق ملء النموذج التالي :
اتصل بنا

او مواقع التواصل الاجتماعي التالية :