معهد القرآن الكريم للنساء
المضامين التوحيدية في دعاء عرفة
التاريخ : 10 / 8 / 2021        عدد المشاهدات : 7321

 

يُعد هذا الدعاء من الأعمال الاستحبابية التي يقرأها الشيعة الإمامية في يوم عرفة ،لما له من فضل عظيم وثواب جزيل ، لكن هذا الدعاء لا يُعتبر مناجاة قلبية فحسب وإنما يشتمل على مضامين توحيدية وعرفانية أراد الحسين (عليه السلام) أن يوصلها من خلال بحثه العميق والجاد في معرفة الله وكيفية الوصول الى الحق سبحانه وتعالى ومعرفة صفاته وما الى ذلك من المضامين التعبدية والجنبة التفكرية التي أراد الحسين أن يخلقها في النفوس التي تقرأ هذا الدعاء.

ولا بد من قراءة هذا الدعاء بشكل دوري لأنه يفتح افاقاً لكل وارد معرفة ولكل طالب حق ، والإمام الحسين(عليه السلام) يمهد للعارفين الطريق لمعرفة الله لأنه يعرف أن هذه الغاية هي من أشرف الغايات وأنبل الأهداف إذ قال الله تعالى "وما خلقت الانس والجن الا ليعبدون" (الذاريات:56)  يعبدون الله على معرفة ودراية ، العبادة التي أرادها الله من الإنسان المعرفة الحقيقية ولكن كلٌ بحسب امكانيته.

إذاً لا بد أن تكون هناك دعوة حقيقية لشرح مضامين هذا الدعاء عبر تكوين حلقات او جلسات او حتى مطارحات ألكترونية في يوم عرفة للوقوف على بعض مضامينه.

وسأحاول في هذا الموضع الوقوف على بعض المضامين التوحيدية في المقطع:

 "اِلهى تَرَدُّدى فِى الاْثارِ يُوجِبُ بُعْدَ الْمَزارِ، فَاجْمَعْنى عَلَيْكَ بِخِدْمَة تُوصِلُنى اِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فى وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ اِلَيْكَ، اَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ،
مَتى غِبْتَ حَتّى تَحْتاجَ اِلى دَليل يَدُلُّ عَليْكَ، وَمَتى بَعُدْتَ حَتّى تَكُونَ الاْثارُ هِىَ الَّتى تُوصِلُ اِلَيْكَ عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقيباً، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْد لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصيباً"

النقطة الأولى:

" إلهي ترددي في الآثار يُوجب بُعدَ المزار "

يشير الحسين (عليه السلام) في هذا المقطع الإخباري إلى حقيقةٍ جدٌ مهمة للسالك إلى الله سبحانه وتعالى ،اذ يرى هنا أن التردد في الآثار يوجب بُعدَ المزار وللوقوف على مطلب هذا السطر يجب ان نتوقف عند كلمتي الآثار والمزار لأنهما يُعتبران المفتاح الأساس لفهم السطر.

الأثر في اللغة العربية بقية ما يُرى من كل شيء[1] ، ولو تأملنا هذا الكون بكل مكوناته لوجدناه أثراً جميلاً لمؤثرٍ عظيم فالآثار التي يقصدها الحسين(عليه السلام) هنا هذا العالم بكل أبعاده وصنوفه ومراتبه.

إذا تأملنا في مجمل النص المعد للشرح ، نرى أن الحسين (عليه السلام) يريد أن يشير الى معرفة الله لكن أي طريقة في معرفة الله ؟ إذ إن الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق كما يعبرون ، والطريق الذي يريد أن يوصله الحسين الى القارئ طريق خاص جداُ ، خاصٌ بكونه الحسين الذي لا يبلغ مرتبته كل سالك.

نستكشف من خلال هذا السطر أن الحسين (عليه السلام) يناجي الله بقوله يارب إن ترددي في الآثار أي حيرتي في معرفة آثارك في هذا العالم ،هذه الحيرة والجيئة والذهاب والتقلب في هذا العالم يوجب بُعدَ مزارك فكأن الحسين(عليه السلام) لا يريد لنفسه أن يتردد في آثار الله حتى لا يوجب عنه البعد عن الله, أي لا يريد أن تشغله كثرة التأمل في الآثار عن معرفة صانعها. و قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز  " وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون " (التوبة:45)  فكأنه يفزع من أن يكون أحد الذين يترددون إثر الريبة التي تحصل في القلوب, فهل الحسين يخشى على نفسه الريبة والشك؟

لا، قطعاً الحسين هنا في مقام يريد الا يجعل من الآثار نقطة انطلاقه للوصول الى الله تعالى (وهو العلة الحقيقية لكل أثر).

النقطة الثانية:

" فاجمعني عليك بخدمة توصلني اليك "

ما هو الجمع الذي يقصده الحسين( عليه السلام) بقوله فاجمعني عليك؟

تجدر الاشارة الى إن مفردة الجمع[2] من المفردات التي شكلت اساساً مهماً في العرفان النظري ، ومن المهم أن نبين أن الجمع الذي يقصده الحسين هنا لا هو جمعٌ بمعنى الحلول ولا هو جمعٌ بمعنى الاتحاد.

فالاتحاد عقيدة باطلة تعني أن العبد يصعد إلى الله تعالى حتى يتحد به وقد كُفِّر الذين قالوا بهذه المسألة ،أما الحلول فإن الله ينزل الى عالم الدنيا حتى يحل في الابدان فيصبح الله والعبد واحداً وقد كُفَّرت هذه العقيدة ايضاً.

 

اذن ما هو الجمع الذي يقصده الحسين (عليه السلام) ؟

إن الجمع الذي يقصده الحسين (عليه السلام) هو التحلي بصفات الله أي  جمع المخلوق بالخالق عن طريق أسمائه وصفاته. وهو مرتبة كمالية أرفع من المرتبة السابقة ، تكون فيها نفس الحسين (التائقة جداً) في طلب حثيث إليه سبحانه وتعالى حتى يتحقق الجمع، إذن الترقي في الكمالات من صفات السالك فلا يكتفي السالك بوصوله إلى كمال معين بل هو في تدرج مستمر في الكمالات ولكن كلٌ بحسب قابليته ووعائه ،فالحسين وصل إلى هذا الكمال الذي لم يصل إليه من هو أدنى منه مرتبةً وهناك كمالات أرفع وأكمل وصل إليها من هو أرفع مرتبةً من الحسين كالإمام علي (عليه السلام) حينما يقول " ما رأيت شيئاً الا ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه "[3] فهذه مرتبة شريفة جداً لا تتسنى لأي طالب.

هنا في هذا السطر قد يرد إشكال لغوي إنه لماذا استخدم الحسين لفظة (على) فيما أن معناها يفيد الاستعلاء ؟

في اللغة العربية حرف الجر (على) يفيد عدة معانٍ من بينها معنى المعية[4] ، فهنا الحسين (عليه السلام) لا يقصد انه يريد الجمع على الله لأن ذلك يفيد منه الاستعلاء (وهو جمعٌ مُشكل) بل مع الله وهناك شواهد عديدة في القرءان يرد فيها حرف الجر على بمعنى المعية مثل قوله تعالى " واتى المال على حبه "

من هنا يمكننا القول إن الجمع الذي يقصده الحسين هو الشهود أي جمع المصنوع والصانع من خلال الصانع نفسه لا بتوسط شيء آخر وهذا الجمع والاتصال بالله تعالى لا بد ان يسبقه سلسلة طويلة من الابتلاءات والعبادات حتى يتمكن السالك من الوصول إلى هذه المرتبة الرفيعة.

النقطة الثالثة:

" كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك "

يسأل الحسين هذا السؤال الاستنكاري في هذا السطر انه كيف يمكننا أن نستدل على الله من خلال الآثار التي هي مفتقرة في وجودها إلى الله ؟

قسم الفلاسفة الموجودات على ثلاثة أقسام:

  1. واجب الوجود الذي وجوده فرض عين ويفترض في وجوده ألا يسبقه عدم ولا يلحقه عدم فهو موجود في كل زمان ومكان على حد تعبير أحد العارفين أن الله فوق ما يتناهي بما لا يتناهى فوجوده سبحانه وتعالى متحقق بذاته وكل شيء يتحقق به سبحانه.
  2. ممكن الوجود وهي الوجودات الممكنة وهي كل موجود ما عدا الله سبحانه أي الموجودات التي تحققت بالمشيئة والقدرة الإلهية فوجودها تحقق من خلال الفيض الذي أفاضهُ الله عليها.
  3. ممتنع الوجود وهو كل ما امتنع وجوده ولكن يُطلق عليه موجود (تسامحاً) أما على مستوى التحقق فلا وجود له مطلقاً كالعنقاء.

إذن في مسألة الاستدلال على الله تعالى (والاستدلال معناه الاثبات) لا يمكن أن نثبت العلة من خلال المعلول لأن العلة هي الأصل والمعلول فرع وجودها، فالمعلولات حتى توجد لا بد أن توجد العلة أولاً وبالذات حتى يتحقق شرط العلية وبخلاف هذا الفرض لا تحدث العلية مطلقاً.

فإنكار الإمام الحسين (عليه السلام) أن يكون الاستدلال والاثبات للغني من خلال المفتقر هو في محله ،وهذا الدليل على أن الله لا يمكن أن يُستدل عليه من خلال الأدنى منه ، وهو دليلٌ معتبر ويُسمى دليل الافتقار، وقد ورد عن النبي محمد (ص)انه قال " إن الفقر فخري" لو نظرنا إليه من زاوية مختلفة سنجد قراءة جديدة لهذا الحديث الشريف تبين أن الفخر الذي يفتخر به النبي يمكن أن يكون الافتقار الوجودي, الافتقار في الرتبة الوجودية التي تظل دائماً في احتياج لذلك الوجود المطلق أو لتلك العلة الاولى .

لكن يجب التنبه أن هذا الطريق خاص جداً ولا يمكن أن نتجشم عناء هذا الطريق فهو طريق الصفوة من الخلق، لذلك السالك العادي والطالب للحقيقية الإلهية لا بد أن يمر في سلسلة من التقلبات في هذا العالم المادي ويستكشف الله من خلال الأدلة التي أوردها الفلاسفة المسلمين كبرهان النظم وبرهان الحركة والصديقين ،كل هذه الادلة تثبت أن لله طرقاً متعددة ولكن كل بحسب قابله المخصص له.

وباختصار إن كل هذه البراهين والأدلة التي صاغها الفلاسفة والمتكلمون لإثبات وجود الله تعالى تنطلق من العالم المادي  للوصول إلى العالم الأسمى العالم الذي لا يحده حد ، وعليه فلا بد ان يختار كلٌ منا طريقاً للوصول الى الله، فلا تقتصر الطرق إلى الله بعدد محدد من العباد ولا ان الطرق الى الله مقتصرة على طريق واحد ولكن يجب ان يتوخى العبد الحذر في اختياره لهذه الطرق.  

النقطة الرابعة:

 "أيكون لغيرك من الظهور ما لا يكون لك حتى يكون هو المظهر لك "

يعيد الإمام الحسين(عليه السلام) الاستفهام بصيغته الاستنكارية حول مسألة الظهور، فهو ينكر أن يكون لغير الله ظهور أولي ثم من خلال هذا الظهور نستدل على ظهور الله ،وللوقوف على هذا المطلب لا بد من الوقوف على مفردة الظهور

للظهور معنيان:

١-الظهور العيني

٢- الظهور المجرد

الظهور الأول يستلزم الرؤية العينية ولا يتأتى إلا بواسطتها والثاني هو كل ما لا يستلزم العيان

فالظهور الذي يقصده الحسين (عليه السلام) ليس الظهور الاول لأن ذلك يستلزم الجسمانية في حين إن الله منزهٌ عن الجسمانية مصداقاً لصفته سبحانه وتعالى الواردة في خطبة المتقين في نهج البلاغة حين قال الامام علي (عليه السلام)  "فمن وصف الله فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه ومن ثنّاه فقد جزّأه ومن جزّأه فقد جهله "[5] فلا يمكن أن يتصف الله بأنهُ ظاهرٌ بالمعنى الاولي لأن ذلك يلزم منه البطلان في نهاية المقام ونحن إنما نريد أن ننطلق لمعرفة الله تعالى فلا يمكن ان ننطلق من مقدمة باطلة.

إذن كيف يظهر الله بحيث لا يدل عليه ظاهرٌ آخر ويكون هو المظهر الحقيقي لجميع الاشياء؟

مسألة الظهور من أشكل المسائل التي اختلف فيها علماء الكلام ففي حين ذهب بعضهم إلى إن للهِ ظهوراً  كالاشياء وهذا يستلزم منه الجسمانية مستدلين على ذلك بجملة من الشواهد القرءانية كقوله تعالى " يد الله فوق ايديهم" " واستوى ع العرش"

 ذهب البعض الآخر الى نفي الصفات الجسمانية عنه، فقالوا : إن الله لا يظهر كالمادة وإنما هو موجودٌ وظاهرٌ لكن ظهوره لا كالاشياء والا يستلزم من نقيض هذا ان يكون الصانع والمصنوع من سنخ واحد وهذا يناقض قوله تعالى " ليس كمثله شيء"

إذن الظهور الذي يقصده الإمام (عليه السلام) هو الظهور المجرد لا المادي وإنما الظهور الذي يستلزم أن يكون الله في كل شيء وفي كل مكان وزمان وهذا ما لايستطيعهُ الظهور الأول لأن الجسمانية والعينية لها حد لضيق أفقها فعندما يوجد الله في كل مكان وزمان يعني ذلك أنه لا تحده جهة ولا زمان.

في الفلسفة الإسلامية يمثلون الوجود بالنور الحسي[6]، فهذا النور الحسي عندما ينير في مكان مظلم يُظهر الأشياء جميعاً لكن من الذي يظهره ؟ لو كان شيءٌ آخر يظهره للزم من ذلك أن يكون هو ظاهر لمُظهر آخر ولكن امكانيته كنور تستلزم منه الظهور بنفسه لا بتوسط شي آخر ، فعندما نرى الشمس والقمر نحن لا نبصر بمعيتها شيئاً  آخر لأننا نراها ظاهرةً بنفسها مظهرةً لغيرها من خلال نورها.

كذلك عندما نأتي الى الله تعالى الذي هو في ظهوره لا حد له يقول الله سبحانه في كتابه العزيز " الله نور السماوات والارض" فيمثل الله  ظهوره بالنور لأنه من أوضح الامثلة وأجلاها ، فعند تسليمنا بأن العالم إنما هو تجليات الله عندئذ يصبح استدلال الحسين (عليه السلام) على أن الله لا يمكن أن يُستدل على ظهوره من خلال الظهورات التي تكون تجليات لنور الحق سبحانه يصبح استدلالاً في محله فلا يمكن أن نستدل بالأدنى لإثبات وجود الأعلى ، منطقياً لا يمكن للعقل أن ينطلق في استدلاله من هذا المنطلق المحدود ،لذلك إنكار الإمام الحسين (عليه السلام)  إنكارٌ منطقي وفي محله  ، لكن يجب الانتباه في إن طريقة معرفة الله طريقة مشروعة لكل وارد لكن يبقى كنهُ الله في دائرة الغيب لا تناله العقول ولا تدركه الابصار كما يقول الامام علي (عليه السلام) " يامن لا يدركه بُعدُ الهمم ولا ينالهُ غوصُ الفطن "[7]

قد يرد إشكال مفاده : إنكم تقولون إن الله ظاهرٌ بنفسه مُظهرٌ لغيره ، اذن كيف ندرك هذا الظاهر وهو غير ظاهر لأعيننا ؟

نحن ميزنا فيما سبق بين نوعين من الوجود ، الوجود الأول هو الواجب الذي هو الله سبحانه وتعالى وهو العلة الأولى لكل موجود آخر ووجوده على نحو الوجوب لا على نحو الإمكان أي إن وجوده يستلزم أن يكون موجوداً بنفسه فالذي يكون موجوداً بنفسه يكون ظاهراً بنفسه وهذا الظهور هو الذي يظهر جميع الموجودات

إذن لو كان الله يمكن أن يُرى كالاشياء للزم أن ينقلب وجوده من وجودٍ وجوبي إلى وجودٍ امكاني وبالتالي لا يحصل تمايز بين الله والإنسان وهذا خلاف الفطرة والواقع ، فالله موجودٌ وظاهرٌ في كل الأشياء ظاهرٌ بصفاته ، بأفعاله ، بآثاره ، بقدرته . وكما يقول الشاعر لبيد بن ابي ربيعة :

وفي كل شيء له آيةٌ        تدلُ على انه واحدُ

كل شيء في هذه الحياة يُظهر هذا الإله على أنه قادرٌ ومبدعٌ وصانع ، فهذا الكون المصنوع بأبهى صورة هو حاكٍ عن قدرة الله وعظمة الله وكما يقول الفيلسوف الهولندي سبينوزا ( لو لم يكن الا هذا الكون معجزةً لكفى )[8].

 

النقطة الخامسة:

                 "متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدل عليك "

بعد أن بيّن الحسين(عليه السلام) الوضوح التام للحق من خلال مظاهره وتجلياته ، يستفهم الحسين (عليه السلام) في هذا السطر عن الحاجة إلى الدليل لوجود الله تعالى فهو يلفت نظرنا إلى الشيء الذي يحتاج إلى دليل ، تارةً يكون الشيء الغائب عن أعيننا مستتراً في طي الظلمات ، ففي هذه الحالة نحتاج الى دليلٍ يدل على هذا الغائب فنستخدم النور مثلاً في تبين مكانه ، فيكون النور بمثابة الدليل ولكن ماهو الدليل على النور؟ الدليل على النور النور نفسه ، فهو نورٌ يدل على نفسه وعلى الآخرين ، هذا على فرض أن الدليل هو النور المادي فكيف بالله سبحانه وتعالى .

إن القضايا في المنطق تنقسم إلى بديهية ونظرية ، البديهية هي القضايا التي لا تحتاج إلى دليل فهي ظاهرةٌ بالبداهة، وأما النظرية فهي القضايا التي تحتاج الى دليلٍ حتى تثبت وجودها.[9]

إذن القضايا التي تحتاج إلى دليل هي القضايا التي تقع في دائرة الغياب أما الله الذي أسلمنا بالمقدمات السابقة أنه موجودٌ وظاهرٌ بنفسه لا يمكن لهذا الموجود والظاهر بنفسه أن يقع ضمن دائرة الغياب فيحتاج إلى دليل يدل عليه.

قد يرد اشكال :

في مقدمة الفقرة يذكر الحسين (عليه السلام) أن التردد في الآثار يوجب بُعد المزار ثم يذكر دليل الافتقار، إن الله هو الغني الفائض على الخلق نعمة الوجود فلا يمكن أن نستدل بالأدنى لإثبات الأعلى ، كل هذه الأدلة التي ذكرها الحسين(عليه السلام) ثم يستفهم مستنكراً في هذ الفقرة أنه متى غبت حتى تحتاج إلى دليل ، ألا يوجب هذا التهافت في القول؟

إن القولَ بأن الله لا يحتاج الى دليل إثباتٍ لوجوده فهو كالشمس الساطعة التي تُظهر الاشياء هذا القول إنما للمقامات العالية كالأولياء والمعصومين ، اما دليل اثبات وجود الله وحاجة الخلق لإثبات وجود الله إنما هو للنفوس التي يحصل عندها الشك فهي تحتاج دائماً إلى الأدلة لكي تُستحصل الطمأنينة ، فواجب الحسين (عليه السلام) إنما يذكرها من باب التنبيه والتذكير للقارئ ، فالإنسان تقوده الفطرة إلى الإيمان بالله ولكن قد يخالط هذه الفطرة نوعٌ من الشوائب فتحتاج الى التصفية ، فهنا يلعب الدليل العقلي دوره في تصفية الفطرة من الشوائب.

فكل إنسان ينزع نزوعاً فطرياً نحو الإيمان لكن عندما تعرض له شوائب وتخبطات فكرية تتعرض هذه الفطرة إلى الشائبة ويصير الرين على القلوب حاجزاً عن الايمان ، هناك من يقول إن الايمان فطري وأعتى الملاحدة يظلون بعد إلحادهم يؤمنون لا شعورياً ،حتى وإن تظاهروا بالإلحاد فمثلاً ينقل البروفيسور باسل الطائي الفيزيائي العراقي هذه الحادثة عن ستيفن هوكنك العالم الفيزيائي الشهير في مجال علم الفيزياء الكونية ،هوكنك كان ملحداً فينقل عنه الطائي على خلفية اجتماع عالمي جمعه به أنه سأله هل ترى يا سيد هوكنك أن وراء المعادلات الرياضية قوةً أخرى لا تصفها المعادلات الرياضية فيقول إنه أجابه "ان كان من شيء ولا تصفه المعادلات فلا بد أن يكون معقولاً " فيسأله مرة أخرى وهل ترى إمكانية أن تتوصل عقلاً لمثل هذا ، فيقول لمعت عيناه لأنه عرف أنه يقصد الله فيقول إنه أجاب " آمل ذلك" ، هذا يعني إن أعتى الملاحدة تعرض لهم لحظات إيمانية لاشعورية حتى خلال مسيرتهم الإلحادية فحينما يقرر الحسين (عليه السلام) في بداية المقطع بعض الصيغ الدلالية على إثبات وجود الخالق لأنه يراعي مقام المستمع فلا يمكن أن يقرر استناداً إلى مقامه العالي بهذا التقرير الأخير لأن ذلك سيخلق التشويش لدى المستمع.

النقطة السادسة:

"عميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً وخسرت تجارةُ عبدٍ لم تجعل لهُ من حبك نصيبا "

بعد أن فرغ الإمام الحسين (عليه السلام) من عرض بعض الأدلة التوحيدية ينتقل الآن إلى بيان حال الذين  ما زالوا يجعلون الله في دائرة الغياب و ينكرون وجوده بعد كل ما ذكره وكل الأدلة التي تثبت أن الله موجود.

إن الرؤية التي يقصدها الحسين(عليه السلام)  هنا هي الرؤية القلبية أي الإيمان بمعناه الواسع

إذن ما حقيقة هذا السطر ، هل الإمام الحسين ( عليه السلام) يدعو على من لم يَرَ الله بالعمى ؟

في البدء لا بد أن نفرق بين الخبر والإنشاء ، فكل كلام لا يتعدى هذين النوعين

أما الخبر مما يصح أن يُقال لقائله إنه صادقٌ فيه أو كاذب  يعني الصدق والكذب فيه مرهونٌ لمطابقته للواقع أو عدم مطابقته.

أما الانشاء فهو ما لا يصح أن يُقال لقائله إنه صادق أو كاذب كالأمر والنهي والعرض والتمني والرجاء والسؤال والخ... من أدوات الإنشاء.[10]

هنا الحسين (عليه السلام) في مقام الإخبار لا في مقام الإنشاء، لو كان الحسين (عليه السلام) قال هذا السطر في مقام الإنشاء لكان يصح القول بأنه في مقام الدعاء، لكنه في مقام الإخبار عن حال الذين بعد كل آيات الله وآثاره ومظاهره في عالم الدنيا ، يسألون عن الله وكأنهم يطلبون الإله المجسم، ثم إذا لم تدركه أبصارهم أنكروه فالحسين هنا في مقام الإخبار عن إن من لم يَرَ الله من خلال أدلة الوجود والخلق والآثار فبصيرته عمياء لأن الله أقرب إليه من حبل الوريد، ويفيض من جوده على خلقه في كل دقيقة وثانية ولو انقطع فيض الله عن الوجود لحظة واحدة لهلك الكون ، والائمة يدركون هذه الحقيقة جيداً فهذا هو الإمام في دعاء ابي حمزة الثمالي يقول " الهي لا تكلني الى نفسي طرفةَ عينٍ ابدا " لأن الحسين يدرك جيداً أنه لو ترك الله الخلق لنفسه لبطل قانون العلّية فلا يعود من المعقول ان يكون الشيء علةً لنفسه لان ذلك خلاف قواعد المنطق.

وثانياً إن الحسين بما له من كمالات وصفات عالية لا يمكن أن يكون في هذا المقام الداعي على الخلق بالعمى لأن ذلك يتناقض مع صفات الأئمة والواصلين إلى كمالات عالية فكيف ذلك وهو سبط النبي(ص) الذي قال " انما جئت لأتمم مكارم الاخلاق"[11] فلا يمكن للذي أكل من مائدة النبي(ص) وتعلم من فيض أخلاقه أن يدعو على الآخرين بالعمى.

وكذلك إنما ذكر "عينٌ" إشارةً إلى عين البصيرة لا العين الباصرة فالذي لا يرى الله في آثاره هو إنسانٌ فاقدٌ للبصيرة لا البصر.

أما الجزء الثاني من هذا السطر " وخسرت تجارةُ عبدٍ لم يجعل له من حبك نصيبا " هنا من خلال هذا السطر قد يرد إشكال مفاده: لماذا الحسين في هذا المورد ذكر كلمة صفقة والصفقة فرع الاثنينية واتفاق يتم بين شخصين قائم على المنفعة ألا يستلزم من ذلك أن يكون لله منفعة من هذه الصفقة وإذا استلزم ذلك ألا يتعارض مع دليل الغنى والافتقار في إثبات وجوده تعالى ؟

الصفقة التي يقصدها الحسين (عليه السلام) هي صفقة العبد مع ربه لا صفقة العبد وربه لأنهُ قيدها بالتبعية "صفقة عبد" إشارةً إلى إن الصفقة والمنفعة خاصة بالعبد فقط وهو مصداقٌ لقوله في مقام آخر " إلهي ماذا وجد من فقدك وماذا فقد من وجدك" إشارةً الى الفقدان والوجدان لدى من وجد الله ومن فقده وهو من أبلغ التساؤلات التي تجعل الذهن يُدهش بها لأول مرة يقرأها بطريقة مختلفة ثم لا تعود هذه الجملة عادية بل دائماً تشكل فارقاً عند إعادة قراءتها ، إذن الحسين(عليه السلام) يخبرنا منذ البداية أن أي صفقة يجريها العبد لا يكون لله نصيبٌ فيها هي صفقة خاسرة ، لأن الله هو المعطي وهو المفيض وهو الموفق ولا ينقص من خزائنه شيء.

ثم إن الحسين ذكر الحب الإلهي إشارة إلى رقي المبلغ ونهاية السؤل من كل غاي ،ولذلك نجد العارفين دائماً يتغنون بالحب الإلهي كأنه نهاية المقامات وأرفعها إلى أن يصل العبد آخر مرتبة الحب وهو الفناء في ذات الله فلا يطمع ولا يخشى وإنما يعيش حالة الذوبان في ذات الله وهو مصداق قول الإمام علي (عليه السلام) " إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكنني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك" فهنا عندما وصل الإمام إلى مقام الوجدان صار كل شيء بالنسبة إليه لا شيء، فلم تعد عبادته طمعاً في لذائذ الله ولا خوفاً من ناره وعذابه وإنما حباً به وتقرباً منه وهذا لعمري من أرقى الإيمان وأصعبه.

................................................

الحسين صاحب تجربة عرفانية

يقدم لنا الحسين (عليه السلام) من خلال هذا المقطع تجربته في الوصول إلى الله سبحانه وتعالى ويعرض طريقته في الوصول وينبغي التذكير أن التجارب خاصةٌ باصحابها تبعاً لكمال السالك ، لذلك قالوا إن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق [12]فالطريق الذي سلكه الحسين في مقام الوصول لا يتسنى لأي شخص لاختلاف الكمالات والقابليات .

عندما ارتقى الحسين (عليه السلام) من سفره الأول الى الله طالب نفسه بالعزوف عن الآثار لانها كمالات ضيقة بالنسبة الى مقامه الشريف وقابليته كسالك لله أوسع من هذه الدائرة الضيقة  ، فلنفرض أن الحسين يجد أن التردد في الآثاروالتقلب في العالم الدنيوي لها كمال ١٠٪؜ وهو قابليته ٣٠٪؜ فنفسه ضاقت في هذا المقام فلا بد أن يطلب كمالاً آخر يتناسب مع قابليته الواسعة لذلك نجده في السفر الثاني أصبح يتزود من الكمالات التي يضيفها عليه صاحب الوجود فتقلب في صفات الله واسمائه وظهوره في كل مكانٍ وزمان إشارة إلى أنه وصل الى التفكير بالله من خلال الله نفسه لا من خلال آثاره وهذا كمال رفيعٌ جداً لكن السالك لهذه الأسفار الروحية يحتم عليه أن يرجع الى الآثار في سيره وسلوكه لكن رجوعه ليس كخروجه منها ، رجوعه إلى الآثار والعالم الدنيوي سيصاحبه الإعراض فلا يرى شيئاً إلا ويرى الله فيه ، رجوعه رجوع المرشد والمعلم وصاحب رسالة جليلة وكل صاحب سير وسلوك له مقام خاص به فمقام النبي(ص) الذي هو أرفع المقامات وأكملها وأجلها ، (الإنسان الكامل الذي وصل إلى ما لم يصل اليه مخلوق ولا سيصل إليه أحد) ، كمالاته تختلف عن كمالات الإمام علي(عليه السلام) الذي يقول " ما رأيت شيئاً الا ورأيت الله قبله وبعده وفيه " ومقام الإمام علي عليه السلام لا كمقام الإمام الحسين عليه السلام وكلٌ بحسبه .

لكن تجدر الاشارة إلى إن كل معرفة بشرية وكل تجربة سير وسلوك لا تدرك كنه الله ، ويبقى كنه الله تعالى غير مُدرَك, قال تعالى (ولا يحيطون به علما ) (طه:110) وفي مقام آخر في دعاء عرفة يقر الحسين (عليه السلام) بذلك حينما يقول " يامن لا يعلم كيف هو إلا هو ، يا من لا يعلم ما هو إلا هو " وانما تُدرك أسماء الله وصفاته وأفعاله أما كنه الله ففي طي غيبه باقٍ.

لذا يمكننا القول إن رجوع الحسين (عليه السلام) في سفره من الحق إلى الخلق هو رجوع مودعٍ ووامق إلى لقاء الحق ويمكننا الإستدلال على ذلك من خلال ثورته التي أنقذت الإسلام من الضياع فهو تجافٍ عن كل ما يسبب له لحظة غفلة واحدة عن الله اذ يقول:

تركتُ الخلق طراً في هواكَ            وايتمت العيال لكي اراكا

فلو قطعوني  في  الحب اربا             لما مال الفؤاد الى سواكَ

وهنا فقط وصل الحسين(عليه السلام) إلى أعلى المقامات العرفانية وهو مقام الحب الإلهي فعقد صفقته مع الله وكان له نصيب كبير من حب الله.

 

 

[1] معجم العين : الخليل بن أحمد الفراهيدي

[2] شرح فصوص الحكم: محمد داوود القيصري

[3] مسند الامام علي: حسن القبنجي

[4]

[5] نهج البلاغة:ابن ابي الحديد

[6] بداية الحكمة: الطباطبائي

[7] نهج البلاغة: ابن ابي الحديد

[8] تاريخ الفلسفة الغربية:  يوسف كرم

[9] منطق المظفر: محمد رضا المظفر

[10] اسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني

[11] بحار الانوار: المجلسي

[12] شرح فصوص الحكم: محمد داوود القيصري


فرقان سلام


اتصل بنا
يمكنكم الاتصال بنا عن طريق الاتصال على هواتف القسم
+964     7602326873
+964     7721457394
أو عن طريق ارسال رسالة عبر البريد الالكتروني
media@mk.iq
info@mk.iq

تطبيق المعارف الاسلامية والانسانية :
يمكنكم ارسال رساله عن طريق ملء النموذج التالي :
اتصل بنا

او مواقع التواصل الاجتماعي التالية :