لعلَّ من أخطر الآفات التي تُصيب الأفراد والمؤسسات بل وحتى المعتقدات والمذاهب والأديان هي إما (الإفراط وإما التفريط)، وندرة نادرة ممن يتخذ الوسطية مذهبا، فلو طالعنا بعض ما تنادي به الأديان الأرضية أو ما يدعو إليه الفلاسفة سنجد إما إفراطا و إما تفريطا في الأمر ... فلو تصفّحنا بعض ما كُتب عن التسامح -مثلا-، فهو -عند نيتشه الفيلسوف الألماني- ضَعْفٌ ولا مجال لقبوله؛ إذ هو يعتقد أنَّ الحقَ هو القوة والقدرة فحسب، ولا مكان للصدق أو الأمانة أو الإنسانية ، وأنّ الخيانة التي تُرتكب هي في إشاعة مفاهيم التسامح أو المروءة أو العدالة وأمثالها؛ لأن هذه المفاهيم تدلّ على الضعف وهي مما أخترعه الضعفاء للحد من قوة الأقوياء .
أما التسامح عند أتباع بوذا، فهو عند -اوشو- أعلى درجات الوعي والرقي التي ممكن أن يصل إليها الإنسان المتنوّر بعد تخطيه كل الحواجز النفسية وتحرره من عبودية الجسد، وهي مرحلة ليست باليسيرة أو السهلة بل تتطلب جهدا جهيدا. ويلحظ التعقيد عند من تناول التسامح -أعني عند البوذيين-؛ إذ هو غاية لا وسيلة يرتقي بها المرء ، غاية يسعى الجميع للوصول إليها، وربما يعجزون عن وصف التسامح ولا يجدون له ضوابطا وحدودا.
ولا يجد الباحثُ غيرَ الإسلام دينا يتخذ الوسطية والاعتدال منهجًا(وجعلناكم أمةً وسطًا). ويمكن أن نتلمس نظرة الإسلام للتسامح من القرآن الكريم وسيرة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام).
لقد جاء الإسلام متسامحا؛ ولذا سُمّيت الشريعة الإسلامية بـ(الشريعة السّمحاء) لأنّها شريعةُ التّسامح والحبّ والعفو. ولم يرد لفظ التسامح أو أحد مشتقاته في القرآن الكريم ولكن ورد معناه ومرادفاته، كما وردتْ عدةُ آياتٍ تدعو الرسولَ(صلى الله عليه وآله) والمؤمنين إلى التسامح والعفو .
ولعل لفظ العفو هو أكثر الألفاظ دلالة على التسامح والصفح، وقد ورد حاملا هذا المعنى مرات عدّة في القرآن الكريم. والعَفُوُّ من أَسماء الله تعالى وهو التَّجاوُزُ عن الذنب وتَرْكُ العِقابِ عليه وأَصلُه المَحْوُ والطَّمْس وهو من أبنية المُبالغة. يقول عزّ وجلّ: (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء 99) .
وقد أسس القرآن الكريم لقواعد التسامح فربّنا سبحانه (يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى -30)، يقول (عزّ وجلّ):(لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )(الممتحنة - 9). فالله (عزّ وجلّ) لا ينهى المسلمين عن مبرّة من لم يقاتلهم من المشركين بل (وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ) ولكن المنهي عنه هو تولّيهم. هذه الآية وإن قيل عنها أنها منسوخة بآية القتال ولكن تتضح منها حقيقة وهي أن الأصل هو التسامح ولكن للظروف التي تطرأ على الواقع وللحفاظ على الإسلام يلجأ المسلمون إلى القصاص بدل العفو، ولا يمكن البقاء تحت مظلة التسامح إذا دعت الحاجة إلى القتال حفاظا على الدين والعرض والمقدسات. والتسامح باقٍ مع الآخر المخالف بشرط عدم التعرض للثوابت الإسلامية؛ فالقرآن يقبل الآخر بشرط عدم التعرض للمسلمين بالأذى يقول عز وجل (لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ( البقرة - 256) .
ولا يمكن أن يعدّ التسامح فضيلة إلّا عندما يمكن للمرء أن لا يكون متسامحاً؛ فـ(العفو عند المقدرة). يقول مولانا أمير المؤمنين علي(عليه السلام) (إذا قدرتَ على عدُوّكَ فاجعل العفوَ عنه شكرا للقدرة عليه). فالنفس المتسامحة نفس مطمئنة لا يحركها الغضب ولا الحقد.
ولهذا نجد القرآن الكريم يصف نبيّنا محمدًا(صلى الله عليه وآله): (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)(ال عمران -159) فالله(سبحانه وتعالى) بيّن أن مسامحة النبي(صلى الله عليه وآله) مع المسلمين ومجاوزته عنهم من رحمته تعالى؛ إذ جعله لين العطف، حسن الخلق وأن لين النّبيّ(صلّى الله عليه وآله) لهم مما يوجب دخولهم في الدين لأنه يأتيهم مع سماحة أخلاقه وكرم سجيته بالحجج والبراهين. فكان الرسول(صلى الله عليه وآله) مثالا للتسامح الإسلامي هو وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام).
لقد كان التسامح منهجا سلوكيا، ومَعلَما بارزًا في حياة أهل البيت(عليهم السلام)، وكانوا يتعاملون به في مقابل الاستفزازات الفردية ومع ذوي التوجهات المخالفة لهم والمختلفة معهم، وكشاهد على ذلك أن شاميًّا رأى الإمام الحسن(عليه السلام)، فجعل يلعنه ويشتمه والإمام(عليه السلام) لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل عليه الإمام الحسن(عليه السلام) وضحك وقال: أيّها الشيخ، أظنّك غريبا ولعلّك شبّهتني، فلو استعنتنا أعناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتَنَا أرشدناك، ... وإنْ كنتَ جائعا أشبعناك، وإنْ كنتَ عرينًا كسوناك... فلمّا سمع الرجلُ كلامَه بكى، ثُمّ قال: أشهدُ أنّك خليفةُ اللهِ في أرضِهِ، اللهُ أعلمُ حيث يجعل رسالته، وكنتَ أنتَ وأبوكَ أبغضَ خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ الخلق إليّ وحوَّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقدا محبّتهم. فأهل البيت هم المصداق الأجلى لقوله تعالى واصفا المتقين: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ( آل عمران - 134 )
ورغّب الله(عزّ وجلّ) بالعفو والتسامح حتى جعل أجرَ العفو عليه سبحانه:(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى - 40)، (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التغابن-14)
وعن رسول اللهa:(إِنَ الْعَفْوَ يَزِيدُ صَاحِبَهُ عِزّاً فَاعْفُوا يُعِزَّكُمُ اللَّه).
بقي أمران ينبغي الالتفات إليهما . الأول وهو لا يوجد تعارض بين مفهومي العفو والتسامح وبين القصاص والعقوبة (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ)(الشورى 41)، إذ نجد أن الرسول الكريمa وأهل بيته الكرام كانوا يعفون عن المسيء إذا كانت الاساءة فردية وشخصية أما حينما يصل الأمر إلى التجاوز على حرمات الله وانتهاكها عندها يكون الموقف حازما.
والأمر الآخر هو أن من يطلّع على وصايا أئمتنا وتوجيهات علمائنا في القتال والجهاد يرى أنها التسامح ذاته والعفو بعينه؛ فأمير المؤمنين علي(عليه السلام) يصف أعداءه بـ(إخواننا بغوا علينا)، واليوم ونحن نقرأ توجيهات الإمام السيد السيستاني (دام ظله) للمجاهدين أسود السواتر نجد الدعوة إلى العفو والتسامح، من ذلك قوله دام ظله: (واعلموا أنّ أكثر من يقاتلكم إنما وقع في الشبهة بتضليل آخرين فلا تعينوا هؤلاء المضلّين بما يوجب قوّة الشبهة في أذهان الناس حتى ينقلبوا أنصارا لهم، بل ادرؤوها بحسن تصرفكم ونصحكم بالعدل والصفح في موضعه...)
يلحظ مما سبق أن نظرة الإسلام للتسامح نظرة شمولية معتدلة وهي مما أمر به الله (عزّ وجلّ) وأوصى به الرسول الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام)، والتسامح الإسلاميّ يختلف عن التسامح الذي دعتْ به الديانات الأرضية يختلف بموضوعيته وعمقه إذ التسامح الإسلاميّ موجود في أصعب المواقف وأشدها، وهو التسامح الناتج عن القوة لا الضعف.
موسى (عليه السلام ) 13 / 11 / 2016 |
|
لغة القرب الالهي في السبع المثاني (الحلقة الثانية) 20 / 11 / 2016 |
|
فن الدعوة والتبليغ والحوار في القرآن الكريم 15 / 5 / 2018 |
|
من هو طالوت ؟ 1 / 11 / 2016 |
|
التواضع 3 / 11 / 2016 |
|
حوار نبي الله ابراهيم(عليه السلام) مع آزر 7 / 11 / 2016 |
|