يقاس تقدُّم الأمم والشعوب عبر التاريخ بمقدار ثقافتها وانجازاتها الفكرية، وتُقاس انجازاتها الفكرية بما قد خلفته مِن تراث حضاري، ومادة هذا التراث هي الكتب التي حوَتْ علوم وفكر تلك الأمم التي انعكست من خلالها، وكذلك المكتبات وما إلى ذلك من مؤسسات علمية وعِمارة (دينيّة) أو(مدنية) وفنون تطبيقية.
ففي الحضارة الإسلامية كان وما يزال الاعتناء بالمقومات الحضارية من جُل اهتمامات المسلمين وخاصة زعمائهم وقادتهم مِن المفكرين والمنظّرين والقائمين على دور الكتب وخزائنها. فكان هذا هو السبب الرئيس الذي حافظ على التراث الإسلامي العتيد مِن أن تطاله يد الضياع أو الاندثار، حيث مازالت الكثير من المكتبات الإسلامية والغربية تحفظ لنا ولهذا اليوم الكثير مِن الوثائق والمصوّرات والمخطوطات التي روت على صفحاتها أروع قصص الحضارة الإسلامية الإنسانية وعلومها وآدابها، ناهيك عن روائع الخط العربي والتي تجسدت في أجمل ما دبجته يراعات الخطاطين العظام، أمثال الوزير ابن مقلة، وابن البوّاب، وياقوت المستعصمي، وغيرهم الكثير ضمن العصـر العباسي وما تلاه، في تمشيق الخطوط وتزويق الكتب وتنميقها، خاصة تلك التي تُهدى للخلفاء والوزراء والأمراء والسلاطين، وقد تجلّى ذلك الاعتناء بشكل واضح كأبرز ما ظهر ضمن كِتابة كلمات ربّ العزة (القرآن المجيد) والمؤلفات العلمية والأدبية وغيرها، حيث تفتخر بحيازتها مكتبات ومتاحف الغرب والشرق.
ولو قُمنا بإجراء مسحٍ بسيط لتراث الحضارة الإسلامية المخطوط منه، نجدُ أنَّ حوالي اثنان إلى ثلاثة ملايين مخطوط إسلامي قد وصل لأيدي المُفهرسين والباحثين اليوم، وهذا ما لم تتركه أي حضارة سابقة على الإسلام أو لاحقة، علماً أنّ معظمها لم يُدرس دراسة وافية بَعد.
إننا اليوم بأشد الحاجة إلى تَعريف العالم بما نملك في بلادِنا العربية ومنها العراق ومدينتنا كربلاء المقدّسة، مِن جزء بسيط لهذا التراث والذي قد يكون غير معلوم أو مُشار إليه سابقاً. علماً بأن مثل هذه المشاريع الإحيائية للتراث قد سبق وأن عَمِل بعض الباحثين مِن المستشـرقين والعرب عليها، ولكن بحدود ضيقة وهامش من المساحة صغير.
إنَّ الجهد الذي يمكن أنْ يسند به الباحث جميع ما يُصدر من أبحاث أو مؤلفات، لابد وأن تُعضده الوثائق والأسانيد المادية، فبها يُصبح لعمله قيمة أكبر من حيث السعة التوكيدية والمصداقية المطلوبة في هكذا أبحاث، وخاصة ما تعلّق منها بجوانب التأريخ وتفرعاته المتنوّعة. ومدينة كربلاء من الحواضر العربية الإسلاميّة التي عمل الكثير من قاطنيها، وعبر زمنها المُمتد مع البواكير الأولى للإسلام. نجد أن الكثير من تلك الأسر قد أولت الاهتمام المَقصود بالجمع والعناية المُباشرة بأمهات الكتب المخطوطة ذات التنوّع في مواردها ومشاربها وتخصصاتها، حيث وجدنا جملةً مهمة من كتب الطب والفلسفة والعقائد والتأريخ وعلوم الفلك واللغة العربية وآدابها، قد تراصفت على رفوف البيوتات العريقة، سواء من الميسورين أو دور العلماء ورجالات الدين وأساتذة مُختلف المدارس الدينية ومنتديات الفكر والأدب، في مُختلف العصور وعلى مرِّ الدهور في هذه البقعة التي كان ولا يزال يقصدها طلاب العلوم والمعارف.
ولكن من الجدير بنا ذكر بعض الجوانب التي سجلّت حالات التسـرّب، التي طالت بعض تراث كربلاء من هذه الكنوز المعرفية والروائع الفنيّة المخطوط بعضها بأيدي مَن ألّفها، حيث يروي صاحب كتاب (مدينة الحسين) السيد محمد حسن الكليدار آل طعمه، وضمن الجزء الرابع من كتابه آنف الذكر، بأن مدينة كربلاء كانت تحتوي على كثير من المكتبات الشخصيّة والعائدة إلى رجالات العلم المرموقين، حيث أصاب البعض منها التلف والتبعثر، نتيجة التدهور العام الذي أصاب المدينة وعبر تأريخها لعدة مرات، حيث يقول في سرد ترجمة حياة العلامة الشيخ عبد الحسين بن علي الملقب (بشيخ العراقيين الطهراني)، في الصفحات (330 ــ 332) ما نصه "وكانت له مكتبة قيِّمة تحوي الكثير من نفائس المخطوطات، ومنها كتاب نادر ثمين هو النسخة الوحيدة في العالم، ترجمة العلامة ــ نصير الدين الطوسي ــ لأحد حكماء اليونان، ابتاعها المتحف البريطاني بقيمة بخسة. وكذلك كانت في مكتبته نسخة خطيّة ثمينة لكتاب العين ــ للخليل بن أحمد الفراهيدي ــ وكان قد استنسخ عليها المغفور له الشيخ محمد السماوي نسخته التي كان يملكها. وعلى أثر واقعة حمزة بيك في كربلاء سنة 1333 للهجرة النبويّة الشـريفة، وقيام الشيخ فخري كمونه بثورته المعروفة، بعثرت ونهبت محتويات هذه المكتبة وغيرها من المكتبات الثمينة في كربلاء". فهذه الصورة التي ينقلها لنا الأستاذ الكليدار، تُمثّل جانباً من حالة التدهور التي أصابت المكتبات الكربلائية ومحتوياتها من نفائس المؤلفات المخطوطة. وأتمنى أنْ نسعى بشكل حثيث لضبط وجمع كل ما تبقّى لليوم من شتات تلك النفائس وحفظها مع الصيانة الحديثة، لتكون شاهدةً على زمن قد غادرنا حسيّاً إلّا أنّه يسكن دواخلنا روحيّاً.
وهنا أودُّ التنويه بأنَّ المخطوط الإسلامي ليس فقط ما قد كُتِب بلسان عربي؛ حيث أن هذا المصطلح شامل لجميع الشعوب الإسلامية، فإلى جانب المخطوط العربي يقف المخطوط التركي والفارسي والهندي (المغولي) والأفريقي وغيرها مِن الأمم التي تَديّنت بالإسلام، والذي حَمَلَ كلٌ منها صفات خاصة في أسلوبه وآلياته من حيث نوع الخطوط المستخدمة (وتُسمى بالأقلام منها خط النسخ والثلث والرقعة والريحاني والتعليق وغيرها، ويسبقها جميعاً الخط الكوفي بتفرعاتهِ العديدة وتشكيلاتهِ المُنوّعة) والزخارف التي كانت لا تفارق تقريباً أي كتاب يُنجز وكذلك صناعته مِن حيث التجليد والغلاف الخارجي ونوع الجِلود المُستخدمة تبعاً للأقاليم الإسلامية وعادات شعوبها ومورثها الحضاري الذي سبق الإسلام في بعض مناطق العالم الإسلامي.
ولذا أوضِّح للقارئ الكريم أنَّ من المفيد دائماً أن تكون نظرتنا للعالم الإسلامي عامةً والعربي خاصةً نظرة شاملة لأوسع المعاني بسبب سعته التاريخية والجغرافية، نظراً لبعثرة مواد الفنون الإسلامية وبالخصوص المخطوط منها بين متاحف وأماكن تفصلها مسافات جغرافية بعيدة بعضها عن البعض، ولا يوجد في الواقع متحف أو مكتبة فيها مِن الغنى والوفرة مِن المخطوطات ما يُعطي صورة كاملة للتطوّر الفني الحاصل في هذه النماذج مِن الآثار.
إن المجموعات الخاصة والعامة مِن المخطوطات الإسلامية في مكتبات أوربا ومَتاحفها، تكوّنت مِن خلال ما حصلت علية هذه المتاحف مِن البلاد الإسلامية في المـشرق الإسلامي ومغربه. وكذلك من الكنوز التي بعثرتها الأيام في الكنائس والأديرة وبيوت الأمراء والملوك والسلاطين والوزراء وغيرهم، أو مِن مشتريات السائحين الأوربيين أو مِن مجلوبات الخبراء والمستشرقين أو المولعين بأسرار الشرق وآثاره، منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
فبدأت تظهر مجموعة من المعارض المتخصصة لإبراز سمات المخطوط الإسلامي وفنون صناعته وتزويقه في عموم أوربا، حيث كان معرض مدينة ميونخ عام 1910م، وباريس في الأعوام 1903م ـ م1907 ـ 1912م، وفي برلين 1909م، وفي فلادليفيا ( الولايات المتحدة ) 1926م، ولندن 1906م ـ 1931م وغيرها الكثير والتي لا تزال حتى وقتنا الحاضر تجري بين مدة وأخرى وفي أمكنة مُختلفة. فكان لهذه المعارض ولا زال، غاية الأثر مِن خلال تحفيز بعض الدول العربية وغيرها منذ بدايات القرن العشـرين للاهتمام بهذا الجانب مثل مصـر والعراق وسوريا وإيران وتركيا مِن خلال إصدار دوريات ومجلّات متخصصة في علم الآثار عامةً والمخطوطات خاصة، وتكلل ذلك في ولادة مجلّة معهد المخطوطات العربية التي تصدر عن المعهد التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة ...
وختاماً أشير إلى ضرورة الاهتمام بهذا التراث الخالد الذي قد يكون لازال قابعاً في خزائن كُتُب خاصة غير معرّف به أو مُشار إليه، يطويه النسيان ويُتلفه الحدثان وبالتالي تُمحى صفحة مِن صَفَحات الإبداع الخطي والزخرفي والنتاج الفكري الفذ، فلابد من تقديم يد العون وتسليط الضوء على تلك النفائس والدُّرر كما حدث في مُتحف نفائس ومخطوطات الكفيل في الصحن العباسي الشـريف أو مُتحف الإمام الحسين –عليه السلام-، وما يتبع لها من مؤسسات فكرية وثقافية قد أخذت على عاتقها صيانة وترميم المخطوطات كافة، وكذلك العمل على جمع وشراء كل ما يُقدّم لها من الوثائق والمُصوّرات والمخطوطات بل وحتى المطبوعات القديمة والنادرة، عبر مركز تراث كربلاء التابع للعتبة العباسية المقدسة، التي طالعتها لعدت مرات أثناء زياراتي الشخصية للمركز، ولم يقف المركز عند هذه الحدود، بل تعدّاها إلى إصدار مجلتين مهمتين في بابي البحث و التوثيق والأرشفة، هما (تراث كربلاء) الفصلية المحكّمة و(الغاضريّة) اللتان تهتم أولاهما بنشـر الأبحاث الأكاديمية، فيما تهتم ثانيهما بنشـر المقالات التوثيقية والأرشيفية عن تأريخ مدينة كربلاء مُعززة بالصور والوثائق النادرة، وكل ما من شأنه أن يكون جزءً من التراث الحضاري للمدينة وأهلها والتأريخ.
لهفة الزائرين عند قبر ابي الفضل العباس عليه السلام 26/12/2014 |
|
ماهي قصة مقام الامام الكاظم ع في كربلاء المقدسة ؟ 12 / 4 / 2018 |
|
خِزانة مخطوطات العتبة العباسيّة...شاهد حضاري ومعرفي كبير 5 / 4 / 2018 |
|
زيارة الأربعين بين الامس واليوم 19 / 11 / 2016 |
|
شوارع كربلاء 22 / 8 / 2016 |
|
الندوات الدورية في مركز تراث كربلاء 10 / 6 / 2016 |
|