تاريخ النجف

النجف قبل ظهور مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام)

النجف قبل ظهور مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام)

لعلّ أوّل عمارة انشأت في أرض النجف كانت في زمن الملك البابلي بختنصر حينما غزا العرب بحدود خمسة قرون ونصف قبل ولادة المسيح (عليه السّلام)، فبنى لمن ظفر به منهم بناء على النجف، ولمّا أطلقهم بختنصر اتّخذوا ذلك البناء منزلا لهم في حياته، ثمّ هجروه بعد وفاته وأصبح البناء خرابا. قال الطبري: حدّثت عن هشام بن محمد، قال: كان بدء نزول العرب أرض العراق وثبوتهم فيها واتّخاذهم الحيرة والأنبار منزلا فيما ذكر لنا واللّه أعلم، أنّ اللّه عزّ وجلّ أوحى إلى برخيا بن أحنيا بن زربابل بن يهوذا أن ائت بختنصر وأمره أن يغزوالعرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب ويطأ بلادهم بالجنود، فيقتل مقاتلهم ويستبيح أموالهم، وأعلمه كفرهم بي واتّخاذهم الآلهة دوني وتكذيبهم أنبيائي ورسلي. قال: فأقبل برخيا من نجران حتى قدم على بختنصر ببابل، وهونبوخذ نصر فعرّبته العرب، وأخبره بما أوحى اللّه إليه وقصّ عليه ما أمره به، وذلك في زمان معد بن عدنان. قال فوثب بختنصر على من كان في بلاده من تجّار العرب، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارات والبياعات من عندهم الحبّ والتمر والثياب وغيرها. فجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرا(1) على النجف وحصّنه ثمّ ضمّهم فيه، ووكّل بهم حرسا وحفظة. ثمّ نادى في الناس بالغزوفتأهّبوا لذلك وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فاستشار بختنصر فيهم برخيا، فقال: إنّ خروجهم إليك من بلادهم قبل نهوضك إليهم رجوع منهم عمّا كانوا عليه فاقبل منهم، فأحسن إليهم. قال: فأنزلهم على شاطئ الفرات، فابتنوا موضع عسكرهم بعد فسمّوه الأنبار. قال: وخلّى عن أهل الحيرة فاتّخذوها منزلا حياة بختنصر، فلمّا مات انضمّوا إلى أهل الأنبار وبقي ذلك الحير خرابا(2). وبعد خراب الحيرة هذا عمّرت الأنبار خمسمئة وخمسين سنة، ثمّ عمّرت الحيرة في زمن عمروبن عدي باتّخاذه إيّاها مسكنا فعمّرت الحيرة خمسمئة سنة وبضعا وثلاثين سنة إلى أن عمّرت الكوفة ونزلها المسلمون(3). وكانت أرض النجف في أيام ملوك الحيرة أرضا خضراء مأهولة. وتدلّ الآثار والأبنية المنتشرة على الضفّة الشرقية لبحر النجف أنّها كانت مسكونة في الفترة الواقعة من العصر الساساني المتأخر إلى القرن الثالث الهجري تقريبا. قال اليعقوبي عند ذكره الكوفة: والحيرة منها على ثلاثة أميال، والحيرة على النجف، والنجف كان ساحل بحر الملح، وكان في قديم الدهر يبلغ الحيرة وهي منازل آل بقيلة وغيرهم، وبها كانت منازل ملوك بني نصر من لخم وهم آل النعمان ابن المنذر(4). وقال ياقوت الحموي: وأمّا ظاهر الكوفة فإنّها منازل النعمان بن المنذر والحيرة والنجف والخورنق والسدير والغريّان وما هناك من المتنزهات والأديرة الكبيرة(5). ويظهر هذا المعنى من بعض الروايات والقصص والأشعار التي دارت أحداثها في هذا المكان. روى أبوعبد اللّه الحميري حديثا دار بين خالد بن الوليد وعبد المسيح بن بقيلة الغسّاني، جاء فيه: قال خالد: فما أدركت؟. قال: أدركت سفن البحر ترفأ إلينا في هذا النجف بمتاع الهند والصين وأمواج البحر تضرب ما تحت قدمك، ورأيت المرأة من أهل الحيرة تأخذ مكتلها فتضعه على رأسها لا تزوّد إلاّ رغيفا، فلا تزال في قرى عامرة وعمائر متّصلة وأشجار مثمرة ومياه عذبة حتى ترد الشام، وتراها اليوم قد أصبحت يبابا، وكذلك دأب اللّه تعالى في العباد والبلاد(6). أمّا بعد تمصير الكوفة سنة ١٧ هـ وفي خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)، فالمنطقة مأهولة بالأعراب ترعى فيها أنعامها، وكان هناك من يسكن على ساحل بحر النجف. وروى ابن حزم، عن أبي راشد السلماني، قال: كنت في منايح(7) لأهلي بظهر الكوفة أرعاها فتردّى بعير منها فنحرته من قبل شاكلته، فأتيت عليّا فأخبرته، فقال: (إهد لي عجزة)(8). وأخرج نصر بن مزاحم المنقري، عن عمر بن سعد، قال: حدّثني سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن علي أمير المؤمنين (عليه السّلام) قال: (ما يقول الناس في هذا القبر)؟ وفي النخيلة قبر عظيم يدفن اليهود موتاهم حوله. فقال الحسن بن علي ((عليه السّلام)): يقولون هذا قبر هود النبي صلّى اللّه عليه وآله لمّا أن عصاه قومه جاء فمات ها هنا. قال (عليه السّلام): (كذبوا لأنا أعلم به منهم، هذا قبر يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، بكر يعقوب)، ثمّ قال:(ههنا أحد من مهرة)(9)؟. قال: فأتي بشيخ كبير، فقال له: (أين منزلك)؟. قال: على شاطيء البحر، قال: (أين أنت من الجبل الأحمر)؟. قال: أنا قريب منه. قال: (فما يقول قومك فيه)؟. قال: يقولون قبر ساحر، قال: (كذبوا ذاك قبر هود (عليه السّلام)، وهذا قبر يهودا بن يعقوب بكره)(10). أقول: ومراده من شاطئ البحر هوالنجف بعينه، وقبر هود (عليه السّلام) معروف في النجف حتى يومنا هذا. قال أحد شعراء الكوفة في أهل النجف: وبالنجف الجاري إذا زرت أهله .... مها مهملات ما عليهن سائس خرجن بحبّ اللهوفي غير ريبة ... عفائف باغي اللهومنهن آيس(11) ثمّ أصبحت ناحية من أرض النجف بعد دفن الصحابي الجليل خبّاب بن الأرت فيها سنة ٣٧ هـ مقبرة لأهل الكوفة، ودفن فيها بعد ذلك العديد من الصحابة. أخرج الحاكم النيسابوري، بإسناده، عن عبد اللّه بن خبّاب بن الأرت، قال: كان الناس يدفنون موتاهم بالكوفة حتى جاء خبابا سهم، فلمّا ثقل قال لي: يا بني، ادفنّي بالظّهر(12) فإنّك لودفنتني بالظهر قيل دفن رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فلمّا مات خبّاب دفن بالظّهر، فكان أوّل مدفون دفن بالظهر فدفن الناس موتاهم بالظهر(13). وقال ابن سلام: روي عن بيان، قال: كنت أمشي مع الشعبي(١٩-١٠٣ هـ)بظهر الكوفة فالتفت إلى بيوت الكوفة، فقال: هذه كفات الأحياء، ثمّ التفت إلى المقبرة، فقال: وهذه كفات الأموات. يريد تأويل قوله تعالى: أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ كِفََاتاً `أَحْيََاءً وَ أَمْوََاتاً(14) [٤] أي تضمّهم إليها ماداموا أحياء على ظهرها، فإذا ماتوا ضمّتهم إليها في بطنها(15). وقد يلجأ إلى هذه المقابر بعض المنقطعين من أهل الكوفة. أخرج ابن الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧ هـ في ترجمة عطوان بن عمروالتميمي: إنّه كان رجلا منقطعا، وكان يلزم الجبان بظهر الكوفة، فأتاه قوم يسلّمون عليه فوجدوه مغشيّا عليه بين القبور، فلم يزالوا عنده حتى أفاق فاستحيا منهم، فجعل يقول لهم كهيئة المعتذر: ربّما غلب عليّ النوم وربّما أصابني الأعياء فألقي نفسي هكذا(16). ولم تزل أرض النجف غير خالية من السكان في العهد الأموي. عن المدائني، قال: حجّ هشام بن عبد الملك وعديله الأبرش الكلبي، فوقف له حنين بظهر الكوفة ومعه عوده وزامر له وعليه قلنسية طويلة، فلمّا مرّ به هشام عرض له، فقال: من هذا؟. فقيل: حنين، فأمر به فحمل في محمل على جمل، وعديله زامره، وسيّر به أمامه وهويتغنّى: أمن سلمى بظهر الكو...فة الآيات والطّلل يلوح كما تلوح على ... جفون الصيقل الخلل قال: فلم يزل هشام يستعيده حتى نزل من النجف، فأمر له بمئتي دينار وللزامر بمئة. وحنين هوالقائل يصف النجف ومنزله بها: أنا حنين ومنزلي النجف ... وما نديمي إلاّ الفتى القصف(17) وفي حدود منتصف القرن الثاني للهجرة بنى المنصور العباسي مدينة في أرض النجف سمّاها)(الرصافة)(18) وذلك قبل بنائه مدينة بغداد. وهي تقع على مقربة من قصر الخورنق، كما يظهر ذلك من شعر الحسين بن السري الكوفي، قال: ولقد نظرت إلى الرصا ... فة فالثنيّة فالخورنق جرّ البلى أذياله فيـ ... ها فأدرسها وأخلق(19) وأشارت المصادر التاريخية إلى أنّ في هذه الآونة كانت هناك قرية يشار إليها في موضع النجف، وهوما يظهر من حديث عبد اللّه بن الحسن بن علي (عليهما السّلام) لمّا قدم به وأهله مقيّدين إلى المنصور العباسي في الهاشمية، ولمّا أشرف بهم على النجف، قال لأهله: (أما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية...) (20). كما أنّ الرشيد العباسي لمّا أظهر مرقد أمير المؤمنين (عليه السّلام) في سنة ١٧٥ هـ في قصّته المعروفة ووجد وحوشا تستأنس بذلك المحل وتقرّ إليه إلتجاء من أهل الصيد، سأل عن سبب ذلك من أهل قرية قريبة هناك فأخبره شيخ من القرية بأن فيه قبر أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) مع قبر نوح (عليه السّلام). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحير: شبه الحظيرة أوالحمى. (لسان العرب) (2) تاريخ الطبري: ١/٣٩٨. (3) معجم البلدان: ٢/٣٣٠. (4) كتاب البلدان: ٧٣. (5) معجم البلدان: ٤/٤٩٣. (6) الروض المعطار في خبر الأقطار: ٢٠٩. (7) جمع منيحة، وهي منحة اللبن، كالناقة والشاة تعطيها غيرك يحتلبها ثم يردّها عليك. (الصحاح: مادة)منح)) (8) المحلّى: ٧/٤٤٧. (9) مهرة، بالفتح، ابن حيدان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وهم حيّ من اليمن. (10) وقعة صفين: ١٢٦. (11) معجم البلدان: ٥/٢٧٢. (12) الظّهر: من أسماء موضع النجف كما تقدّم. (13) المستدرك على الصحيحين: ٣/٣٨٢. (14) سورة المرسلات: الآية ٢٥-٢٦. (15) غريب الحديث: ١/٢٤٠. (16) صفة الصفوة: ٣/١٢٦. (17) الأغاني: ٢/٣٣٤. (18) تاريخ الطبري: ٦/٣٣٤. (19) معجم البلدان: ٣/٤٩. (20) تاريخ الطبري: ٦/١٧٩.

صور من الموضوع ...

نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...