مكتبات عامة او شخصية

مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) العامة وسبب تأسيسها

مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) العامة وسبب تأسيسها

بقلم: الحاج حسين الشاكري كانت في النجف الأشرف مكتبات كبيرة تضم الكثير من المصادر والمخطوطات، غير أنها كانت شخصية وخاصة ببعض البيوتات العلمية، ولا يمكن الاستفادة منها بصورة عامة، لا سيما إذا كان المؤلف أو المحقق بعيدا عن الأسرة، فإنه لا يمكن أن يرى المخطوطة فضلا عن أن يطالعها أو يستنسخ منها شيئا. وفعلا فقد لاقى العلامة الشيخ الأميني (قدس سره) عند تأليفه لسفره الخالد كتاب "الغدير " الأمرين والعنت والجهد الجهيد في الحصول على المصادر المطلوبة فقد كان (رحمه الله) يبثني همومه وشكواه، وما يعانيه من الحصول على المصادر العلمية وغيرها، وقد ضاق بهذا الأمر ذرعا، وتحسس ما كان يعانيه المحقق أو المؤلف من مرارة البحث والتنقيب، خاصة والنجف الأشرف هو المركز العلمي والديني في العالم الإسلامي. عند ذلك انقدحت عنده فكرة تأسيس مكتبة عامة في النجف الأشرف، تضم أمهات المصادر لعلوم أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك تحقيقا لأمنيات رجال البحث والتحقيق والتأليف. فبادر رضوان الله تعالى عليه فور وضوح الرؤيا لديه بكل همة ونشاط، واتصل بالمؤمنين من أصحاب الإمكانات الذين يدركون أحاسيسه، وفاتحهم بمشروعه القيم وسعيه في إخراجه إلى حيز الوجود، فلقي من بعضهم الرغبة الصادقة في المساهمة بإنجاز المشروع. وأول ما ابتدأ به شراء دارين متجاورتين في محلة الحويش وفي آخر سوقه، واستمر بشراء ما يمكنه شراؤه من الدور المجاورة، تمهيدا لتشييد مكتبة ضخمة تليق باسم النجف الأشرف ومركزه العلمي في العالم الإسلامي والشيعي، وتليق باسم صاحبها أمير المؤمنين (عليه السلام). وفي سنة ١٣٧٥ه‍ = ١٩٥٥م بوشر بحفر الأسس وبناء (السرداب) والمخازن تحت الأرض، وقد تحمل (رحمه الله) الكثير من قلة ذات اليد، ولكن الله سدد خطاه بإكمال التصميم الذي وضعه، وأصبح جهاده ذا شقين: الأول: جمع المال لإكمال البناء وشراء بقية الدور المجاورة. والثاني: الحصول على المصادر من الكتب، الخطية وغيرها، فكان يسافر كل سنة إلى إيران وغيرها من الدول الإسلامية بنفسه أو يراسل من هناك لإنجاز هذا المشروع العظيم. وبعد أن مضى على هذا العمل الدؤوب أكثر من سبع سنوات تم إنجاز المرحلة الأولى من بناء المكتبة، وتم افتتاحها في يوم الغدير، تيمنا باسم صاحب المكتبة الامام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد سميت باسم « مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) العامة «ومع الأسف لم يكن في النجف من يتحسس بأحاسيسه، ويشعر بشعوره إلا القليل، على الرغم مما يضم النجف الأشرف من فطاحل العلماء والمحققين والأدباء والتجار وغيرهم. وكان (رحمه الله) يطلعني على كل شاردة وواردة من شؤون المكتبة، ويبثني همه وحزنه وشكواه، شفاها مرة وتحريرا أخرى. وكنت أعيش محنته وهمومه، وأشاركه باليسير الذي أستطيع إنجازه من الناحية العمرانية والمالية. وعندما كمل البناء سجله مع الدور المجاورة التي بحوزته - والتي لم تدخل في البناء بعد - في دائرة التسجيل العقاري وفي دائرة الأوقات بالنجف الأشرف. وبما أنه إيراني الجنسية ولا يمكن أن يكون هو الواقف فقد جعل هيئة التولية والواقفين باسم عراقيين، وهم ثلاثة: عبد الحسين النجم، وكاتب الحروف (حسين الشاكري)، وهاشم عبد الباقي الطيار، وذلك لما لمسه منا - نحن الثلاثة - من الإخلاص الصادق في إنجاز بعض شؤون المكتبة وبنائها، وتحسسنا بشعوره، كما أنه عين متولين شرعيين من المساهمين في إيران، وعددهم تسعة أشخاص، وهم: العراقيون: الحاج حسين الحاج محمد الشاكري، هاشم الحاج عبد الباقي الطيار، عبد الحسين الحاج علي النجم. الإيرانيون: الحاج إسماعيل سيگاري، الحاج فرج موحدي، الحاج سيد مصطفى عالي نسب، الحاج محمد علي بوستي، الحاج حسين عليزاده كاغذي، الحاج إبراهيم رمضاني، الحاج حسين كاشاني، الحاج الشيخ رضا الأميني النجفي، الحاج مجيد پركار، وبعد افتتاح المكتبة وانتهاء مراسم التولية والتسجيل في الدوائر الرسمية بالعراق، سافر بصحبة ولده الشيخ رضا إلى الهند لزيارة معالمها الأثرية الإسلامية، لا سيما جامعاتها ومكتباتها الضخمة التي تضم عشرات الألوف من أنفس المصادر، لا سيما مكتبة جامعة علي گر، وغيرها المنتشرة في طول الهند وعرضها. وكان موضع استقبال كبير منقطع النظير، وعاد بعد ثلاثة أشهر بصيد سمين من أثمن مصادرنا ومعالمنا الدينية، سواء (بالمايكروفيلم) أو الاستنساخ باليد، وذلك سنة ١٣٨٢ه‍ = ١٩٦٢م، وثمرة السفرة هذه ألف كتابا خاصا أسماه « ثمرات الأسفار «. وفي السنة الثانية، أو بعد أشهر من عودته من الهند سافر إلى إيران، لنفس الغرض، ومع أن تردده إلى إيران ما كان يثير انتباه أحد، غير أنه كان يعود إلى النجف محملا بالكتب والأثاث والسجاد الثمين وغيره، لأن كثيرا من أهل العلم والمال والمنصب يعرفون مقامه ومنزلته العلمية والجهادية. وفي سنة ١٩٦٤ قرر السفر إلى دمشق الشام ومعه ولده الشيخ رضا، لمتابعة جولته في الاطلاع على التراث الإسلامي بين رفوف مكتباتها القديمة والأثرية، كالمكتبة الظاهرية وغيرها، فقمت بتهيئة متطلبات السفر لهما من قطع تذاكر السفر جوا إلى الشام وغير ذلك، كما اتصلت بالحاج محمود الشيرازي في دمشق هاتفيا لاستقبال العلامة الشيخ الأميني وتهيئة سكن مريح ولائق به، ليكون في خدمته بإنجاز متطلباته الأخرى، والحاج محمود هذا صديق لي وتاجر متصد لمثل هذه الأمور الخيرية. وبعد فترة قصيرة سافرت إلى فرانكفورت بألمانيا الغربية لأغراض صناعية وعند عودتي لم يدر في خلدي أن أعرج على دمشق الشام وأنا في طريقي إلى بغداد، لأنه كان من الصعوبة بمكان دخول العراقي إلى سوريا، نتيجة للوضع السياسي حينذاك. غير أنني قررت فجأة ذلك، وكأن هاتفا يهتف بي أن أعرج على دمشق، وفعلا قدمت دمشق، وفور وصولي اتصلت بالعلامة الأميني وزرته في مقر إقامته وعمله، وعند اجتماعي به في الجناح المخصص له لمتابعة أعماله ومطالعاته في المكتبة الظاهرية، وجدته يواصل بحثه وآثار التعب والإرهاق بادية على محياه. وعندما استقر بنا المقام اطلعني على إنجازاته العظيمة في استنساخ الكتب القيمة، والتي تعتبر من أهم مصادرنا ومراجعنا في الفقه والحديث، والتي طالما كنا نسند إليها الروايات وهي ليست في أيدينا، وكان سماحته قد استنسخ منها بيده الشريفة ما يناهز الألف وثمانمائة ورقة كبيرة (فولسكاب). كما أطلعني على قائمة كبيرة من الكتب الخطية القديمة والمطبوعة بالحجر، والتي تضم أهم معالم تراثنا وأسانيدنا، بحيث لا يمكن استنساخها باليد حتى لو طال الأمد إلى سنين عديدة، لكثرتها، وشرح لي تفاصيل مشروعة، فأعجبت به كثيرا، وفورا أجبته بأن تكون جميع تكاليفه على حسابي الخاص، فنظر إلي وبكى وقال: الحقيقة تريد يا حاج؟ إني كنت قد قررت تصوير كل الكتب الخطية (بالمايكروفيلم) على شكل أشرطة، ومن ثم تظهيرها على الورق الحساس وتجليدها، فتصبح بذلك كتابا يحاكي النسخ الأصلي، ولكن هذا المشروع كان يكلف مبالغ طائلة ومجهودا كبيرا، ولما لم أكن أملك المال اللازم لذلك، بقيت متحيرا لا أدري ما أفعل، وأخذت تدور في ذهني تساؤلات وتساؤلات.. هل أراسل تجار إيران وأفاتحهم بذلك؟ هل أؤجل المشروع أم أتركه بالمرة؟ هل أصبر حتى يفتح الله لي بابا؟ هل؟ هل؟.. ولما لم أجد حلا ووصلت إلى الطريق المسدود، توجهت إلى الله بنية صادقة وتوسلت بالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد توسلي بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طالبا منهم إنجاز مشروعي هذا، وأخيرا تركت الأمر إلى تدبير الله جل وعلا.. وطالما سألته تعالى أن تكون المساهمة في هذا المشروع على يد نظيفة وخالصة لوجهه سبحانه، فها أنت نلت هذا الشرف والتوفيق، فهنيئا لك. جعل الله يدك هي العليا، ولا يجعلها السفلى. أما كمية الكتب المراد تصويرها فكانت تربوا على الربع مليون ورقة، وتكون عشرات الكتب الضخمة، غير أن التوفيق لم يستعفنا في تصويرها كلها فصورنا ما يمكن تصويره، وفعلا رصدت المبالغ اللازمة للمشروع، وبعد الاجتماع بالسيد أنيس عمار المتصدي للتصوير والاستنساخ بحضور ومعرفة الشيخ رضا الأميني، تم الاتفاق معه، فباشر بتصوير الكتب المطلوبة من يومها. وبعد سنتين أو ثلاث أصبحت الكتب جاهزة للمطالعة، وهيئت لها خزانات خاصة لحفظها، وختم على جميعها هدية الحاج حسين الشاكري إلى مكتبة أمير المؤمنين (عليه السلام) العامة. وتمر الأيام والمكتبة تزخر شيئا فشيئا بالكتب والمصادر. وكانت وفود علمية وأدبية أو سياسية ـ في بعض الأحيان ـ تزور العراق، وكانت الحكومة تجعل لضيوفها برنامجا لزيارات العتبات المقدسة، وفي مقدمتها النجف الأشرف، لأنها عاصمة التشيع وإحدى أهم المدن الرئيسية العلمية، فهي كالجامع الأزهر بالقاهرة، وجامعة القرويين بتونس، وجامعة الزيتونة بفاس في المغرب، وعند زيارتهم النجف الأشرف بعد الحرم المطهر للإمام علي (عليه السلام) يزورون أهم معالمها ومن جملتها مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وذات مرة كنت في اجتماع في المكتبة وإذا باتصال هاتفي ـ وكان المتكلم قائم مقام النجف ـ يخبر الشيخ رضا الأميني بوصول وفد إلى النجف الأشرف ويريد زيارة المكتبة، وعند سماعي الخبر غادرت المكتبة، لأفسح المجال للشيخ بالتوجه إليهم والاستعداد لملاقاتهم أولا، وثانيا لأني ما كنت أحب الظهور في مثل هذه المناسبات. وفي الأسبوع الثاني ـ عند زيارتي ـ حدثني فضيلة الشيخ رضا الأميني عن زيارة الوفد قائلا: كان الوفد يتألف من رئيس الجامعة العربية بالقاهرة، ورئيس جامعة أم درمان بالسودان، وممثل اليونسكو في الشرق الأوسط، وكان بمعيتهم الدكتور عبد الرزاق محيي الدين، ومدير المكتبات العام في بغداد، وقد حدثهم عن تاريخ تأسيس المكتبة وما تحتويه من الكتب القيمة والآثار النفيسة، والأشياء النادرة، ولا سيما بعد مشاهدتهم المصورات وأفلام المايكروفيلم، التفت ممثل اليونسكو إلى مدير المكتبات العام متسائلا: تقولون إن عمر المكتبة لا يتجاوز عشر سنوات وليس لها أي مورد؟! فأجابه الدكتور محيي الدين: نعم. فقال رئيس الوفد: هذا مستحيل، كيف يكون ذلك مع عدم وجود الموارد الثابتة؟ فأجابه الشيخ رضا: نعم، وهكذا معظم مشاريعنا، وبعد ذلك سأل عن اسم المتبرع لهذه المجموعة من الكتب المصورة والمثبت اسم هاديها عليها، هل هو زعيم أو شخصية علمية ومثرية كبيرة؟ فلما أجابه بأن المهدي لهذه المجموعة من الكتب هو شخص كاسب اعتيادي، اندهش أكثر وقال: إذا كان الرجل البسيط والكاسب منكم يتحسس بهذه الأحاسيس ويتبرع بهذه المجموعة الضخمة، فكيف بالأكبر منه؟! لقد ثبت عندي أن هذا الشعب حي لا يموت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصدر: ربع قرن مع العلامة الأميني (شذرات من حياته الشريفة)، الحاج حسين الشاكري ص 73-78

صور من الموضوع ...

نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...