تاريخ الحلة
الأبعاد الاقتصاديّة لنشأة مدينة الحلّة
لقد أفاض المؤرخون والبلدانيّون العرب في ذكر الأراضي الزراعيّة التي كانت تحيط بمدينة الحلّة والموقع الجغرافيّ المميّز الذي كانت تتمتّع به هذه البقعة المباركة وفراتها العذب الذي كان يغطيها، ويبدو أنّ نظرة الأمير صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأسديّ الذي كان يتمتع بحنكة وفطنة بدأت من هنا، فقد رأى أنّ بالتالي سيحصل تفاعل بين عوامل البيئة الطبيعيّة في هذا المكان مع العوامل البشريّة فتمنحه القدرة على الاستمرار والنمو، وهذا ما شجّعه على تمصير الحلّة سنة 495هـ، بعد أن كانت بيوتات بسيطة تسمى الجامعين فضلًا عن مكانتها العلميّة بين الحواضر الإسلاميّة، وموقعها العسكريّ في مواجهة التحديّات الخارجيّة، والتفاف القبائل العربيّة حولها، فترسّخت كل هذه المعطيات في فكره وصدًى فتح آفاقًا من الأمل والبهجة في نفسه وعاملاً مهمًّا، شجّعه لنقل إمارته من النيل التي تقع في الجانب الشماليّ من نهر الفرات إليها، وقد شهدت مدينة الحلّة منذ تمصيرها من خلال هذه الأبعاد ازدهارًا اقتصاديًا في مختلف مجالات الحياة، إذن كانت الحالة الاقتصاديّة سببًا مهمًّا في اختيار هذا المكان حيث أراد أن تكون مدينته في موقع مميّز عن غيره أي المواصفات التي امتاز بها موقع مدينة الحلّة، فأصبحت بحق من الحواضر العربيّة الإسلاميّة التي أسهمت في القضاء على الاحتلال السلجوقيّ للعراق من خلال دورها الاقتصاديّ، ولما كان يتمتع به آل مزيد من نفوذ بين جميع القبائل في مناطق نفوذهم، فهدد السلاجقة المتحاربين على السلطان ووصلت قوّاته إلى الموصل وطرابلس، عندما طلب منه السلطان محمد نتيجة مضايقة الإفرنج لصاحب طرابلس، وفي عام (500هـ) وصل صدقة إلى قلعة تكريت واحتلّها، وواصل توسيع أملاكه فأرسل ابنه بدران إلى البطيحة لاستنجاد أهلها من خطر قبيلة خفاجة فسيطر عليها، فأصبح ملكاً على جميع القبائل العربيّة وأعطته هذه المكانة واجباً صعباً أمام القبائل التي قد تعبث بالأمن، ولإضعاف نفوذ الخليفة المستظهر بالله، ويعد هذا من الأسباب التي دفعت صدقة إلى بناء المدينة الجديدة (الحلة) والتي كانت الجامعين مركزاً لها، حيث أفصحت وقائع الأحداث عن عمق الاختلاف بين الأمير صدقة وبين المركز، حين جاءت خطوة بناء مدينة الحلة والانتقال إلى موضع الجامعين، مقرونة بقراره الجريء في السيطرة على مدينة الكوفة، بعد أن قام بطرد نائب السلطان، وأضافها إلى أملاكه، فقد استطاع عبر هذا الإجراء الاحترازي تأمين الجهة الغربيّة لمدينة الحلّة حتى تخوم صحراء النجف من المخاطر المفاجئة، وكانت هذه الجهة مصدراً لهجمات القبائل على موضع الجامعين في عهد الإمارة المزيديّة قبل تأسيس الحلّة. إن ما تتصف به مدينة الحلّة من ملائمة المناخ وخصوبة التربة ووفرة المياه ووجود طرق مائيّة عن طريق شطّ الحلّة والطرق البريّة مثل الطريق الذي يربطها ببغداد، والكوفة، وكربلاء، جعلت الزراعة وتربية الحيوانات المورد الأول الذي اعتمد عليه معظم السكان محقّقة نوعًا من الاكتفاء الذاتيّ، إذ كان عاملًا أخر شجّع صدقة على أن يكون اختياره لبناء المدينة في هذا الموقع، وهي في ذات الوقت تمثل المركز بالنسبة لكافة العشائر المحيطة بالمدينة من جميع الجهات، ممّا يدلّ على الطبيعة السلميّة والمتسامحة لسكان المدينة، عبر الدخول في تحالفات مع القبائل الساكنة في منطقة الفرات الأوسط، فضلاً عن العشائر الكرديّة، والنبط، وأفراد من التركمان، كما أنّ موقع مدينة الحلّة على ضفاف شط الحلّة أعطاها أهميّة خاصة، إذ وفرّ مستلزمات الأمن والقدرة على الدفاع ومواجهة التحدّيات والأخطار التي تواجه موقع هذه المدينة في أيام الحروب والأزمات، وهذه المستلزمات كانت من أهم أسس اختيار الموقع لبناء مدينة الحلّة وتطوّرها الاقتصاديّ، كما أنّ انهيار مشاريع الري في منطقة النيل كان من العوامل التي دفعت صدقة بن مزيد للانتقال إلى مقر إمارته، لذلك بنى وأصحابه المساكن الواسعة، وإن هذا العمل يحتاج بطبيعة الحال إلى قدرة اقتصاديّة لجعل المدينة أفضل حالاً من النيل وهي مدينة آبائه، وقد ترافق مع هذه الإنشاءات اتساع نفوذ الإمارة حيث امتدت سيطرتها شمالاً إلى هيت سنة (496هـ) وتكريت (500هـ) وجنوباً إلى واسط (497هـ) والبصرة (499هـ) وأطراف البطيحة (500هـ)، ولكن اختتام عهد صدقة كان مطلع القرن السادس الهجريّ بفشل تمرده على المركز، وكان مأساوياً، انتهى بمقتل صدقة وهروب جيشه واستيلاء أصحاب السلطان على الحلّة. لقد وصفت الجامعين التي أقيمت عليها الحلّة بأنّها عبارة عن (رستاق) مقاطعة عامرة خصبة، وهذا الانتاج كان عامل إسناد للمناطق المجاورة مثل بغداد وغيرها، وتزويدها بالمواد الغذائيّة، وقد ذكر الاصطرخي في (مسالك الممالك):" أن حول الجامعين رستاقاً عامراً خصباً جداً، وهناك الكثير من القرى المجاورة لمدينة الحلّة قد اشتهرت بزراعة الفواكه"، وكانت منطقة سورا تُزرع فيها الأعناب والرمّان والحنطة والشعير، حتى اعتبرت المنطقة الأولى زراعياً في العراق والشرق الأوسط عموماً، ويصف ولستي الحلة عام (1837م): بقوله " تدل الجوامع والأسواق على سعة ثرائها "، ويقول آلويّ: " إن سور الحلّة من الأسوار الجيّدة التي شاهدها عام (1838م) "، وبقي السور شاخصاً حتى قرر الإنكليز هدمه عندما دخلوا الحلّة عام (1917م) لأسباب أمنيّة وعسكريّة. أمّا الصناعة فقد وصف ابن جبير مدينة الحلّة في رحلته قائلًا: " فيها أسواق حافلة جامعة للمرافق المدنية والصناعات الضرورية "، واشتهرت بجملة من الصناعات مثل صناعة النسيج، والعطور، والصباغة، وصناعة الثياب (البرسيّة)، وصناعة الزجاج، والوراقة والنسخ، وكانت لها محلات خاصّة بها، كما كان لمدينة الحلّة معرفة جيّدة بصناعة الصياغة للذهب والفضّة ومختلف الجواهر والفخار كما شاع استخدام (اللبن)، الطابوق، بوصفه مادة أساسيّة في البناء. وأخذت الطرق المائيّة طريق نهر الفرات دوراً مميزاً في تشجيع التجارة بين مدينة الحلّة والمدن الأخرى، وكان للنقل المائيّ دور مهم في نقل البضائع فكانت سفن الشحن في نهر الفرات تنحدر فيه ذهاباً وإياباُ، وكان الطريق البري من الحلّة إلى بغداد أحسن طريق وأجمله في بسائط من الأرض وعمائر تتّصل بها القرى يميناً وشمالاً، ويؤكد ابن جبير توفر الأمن للطريق البرية بين الحلّة وبغداد لاسيما في مواسم الحجّ حيث يمرّ الحجّاج بمدينة الحلّة وعلى أكثر تلك الطرق سواقي وقناطير وخيام فيها رجال يحرسون الطريق، ممّا سهّل للكثير من الحليين أداء مناسك الحجّ والإقامة والاستقرار في مدن الحجاز، وباختلاطهم هناك أصبح لهم مكانة جيّدة في المناقشات والمناظرات واندفع علماء الدين وطلبتهم إلى الانتقال تدريجياً من النجف وبقيّة الأمكنة صوب الحلّة، وقد أسهمت العوامل الذاتيّة والموضوعيّة بكلّ تراكماتها في بلورة عمليّة انتقال المرجعيّة الدينيّة من النجف إلى الحلّة بعد ذلك بعدّة عقود لتبقى فيها قرونًا عديدة، ولتصبح معقل العلم ومركز التلاقح الفكريّ بين مفكري الأمم وموطن الشيعة الإماميّة، حتى نبغ فيها في القرن السابع الهجريّ/ الثالث عشر الميلاديّ زهاء خمسمئة عالم في علوم مختلفة. لقد جاءت رغبة الأمير صدقة بتأسيس الحلة متوافقة مع آراء وتطلعات النخبة الاجتماعيّة، واتسقت مع الظرف الموضوعيّ، حين جاءت متزامنة مع مدة زمنيّة ملائمة، انشغل فيها ملوك السلاجقة، ومنهم الأخوان (بركيارق ومحمد سنجر)، أولاد (ملك شاه بن الب ارسلان) في خضم الصراع والتنافس على السلطة، وكان البحث عن موطن آمن للإمارة المزيديّة تحدياً حقيقياً قد فرضته طبيعة العلاقة مع المركز، لاسيما بعد أن قطع صدقة سنة (494هـ) الأموال والضرائب عن السلطة المركزيّة، على الرغم من تهديدات الوزير الأعز أبي المحاسن الدهستاني وزير السلطان بركيارق، كما أن انصراف الأمراء المزيديّين إلى الاهتمام بالجيش وزيادته منذ بداية تأسيس الإمارة، لاسيما الأمير صدقة الذي سار على ما درج عليه سابقيه، بل تفوق عليهم في اهتمامه بهذا الجانب فقام بتعزيز القدرة العسكريّة بموازاة تنامي الحاجة إلى دورها، فاستقدم حلفاء الإمارة من العشائر الكرديّة إلى ضواحي النيل، نظراً لما تقتضيه مهام الإمارة وطبيعة الظروف السياسيّة في ذلك الوقت، ولا شك في أن هذا الإجراء هو الآخر قد حفز على تنامي الأحوال الاقتصاديّة، وضاعف وتيرة الحاجة إلى مهن وحرف، بحيث تستجيب إلى احتياجات البشر المعيشيّة، وتؤمّن مستلزمات القوة العسكرية.