تاريخ الحلة

نهايةُ الإمارة المزيديَّة في الحِلَّة

نهايةُ الإمارة المزيديَّة في الحِلَّة

احتضنت مدينةُ الحِلَّة فكر مدرسة أهل البيت الطاهر والتشيّع على مذهبهم الحق، وهذا ما جعلها تدفع ضريبة هذا الاحتضان غاليًّا، عن طريق قتل أبنائها وعلمائها وانتهاك حرماتها، فالحاقدون على هذا الفكر الشريف لم يمهلوها أن تلتقط أنفاسها، حيث لم تمضِ إلَّا سنوات قليلة على تمصير هذه المدينة الفتية، حتَّى غزاها السلاجقة عام 501 هـ، بحقدٍ طائفيّ بغيض، فدنّسُوا تربتها واستباحوا أهلها، وقتلوا مُمصرها صدقة بن مزيد، ولم يتوقفوا عند هذا الحد فقد استمر مسلسل انتهاك حرمة هذه المدينة الساكنة. وما أن لملمت جراحاتها لتنهض من جديد متجاوزة نكباتها بتثبيت أركان إمارتها وتوسيع علاقاتها الخارجيَّة، حتَّى تكالبت عليها خفافيش الظلام للانقضاض عليها من جديد، وفي هذه المرة كانت النهاية القاصمة، بعدما سبقتها عدة محاولات تبادل فيها الأدوار مَن ادّعى الخلافة على المسلمين، والإسلام منهم براء، كبني العباس من جهة، وسلاطين الجور والقتل والتهجير الترك السلاجقة من جهة أخرى. وقد وقفت هذه المدينة المُضحية والمدافعة عن الدين والمذهب، أبيّة كالطود الشامخ، تذود عن ترابها بهمة أبنائها وشكيمة أمرائها على مدى أكثر من ثمانين عامًّا، على الرغم مِن خبث ودناءة أعدائها والمتربصين بها، بجحافل جيوشهم وغطرسة قادتهم فقد سلكوا سبلًا رخيصة ودنيئة للنيل من قلعة التشيع وموئل العلم والعلماء لكنَّهم عجزوا عن النيل مِنها، وفي هذه المرة اختطوا لأنفسهم خططًا مُتعدِّدة لإحكام سيطرتهم عليها؛ ومنها أسلوب الإغراءات الماليَّة والإداريَّة سواء كانت عن طريق الرشاوى وإسناد بعض المناصب الإداريَّة والقياديَّة لبعض أمرائها، أو عن طريق الزواج والمصاهرة كما فعل السلطان السلجوقيّ مسعود حينما عرض على صدقة الثاني بن دبيس بن صدقة الزواج من ابنته، وتزوج هو من سفرى بنت دبيس بن صدقة أيضًا؛ لكسب وده والوقوف بجانبه ضد التكتل الخطير الذي قام بين ملوك الأطراف والملك داوود بن السلطان محمود الذي كان يروم خلع السلطان مسعود وإعادة الخليفة الراشد ( وقد سبق أن خلعه السلطان مسعود وجاء بالمقتفي بدلًا عنه). وبعد مناورة التزويج البائسة هذه، أصبحت الإمارة المزيديَّة تتأرجح بتقديم فرض الطاعة والولاء بين السلاطين السلاجقة ومَن يتبعهم من الخلفاء، وبين خصومهم من بني العباس ومَن يتبعهم من السلاطين السلاجقة الآخرين الطامعين بكرسي الخلافة، وكان من النتائج السلبية لتلك العلاقة مقتل الأمير صدقة بن دبيس وعنتر بن أبي العسكر. وبعد مقتل الأمير صدقة، أسند السلطان مسعود حكم مدينة الحِلَّة لأخيه محمَّد بن دبيس، وجعل مهلهل بن أبي العسكر أخا عنتر والمدبر لأموره، إلَّا أنَّ أخبار هذا الأمير انقطعت بصورةٍٍ مفاجئة, فلم نسمع عن فعالياته ومكانته إلى سنة540هـ، والتي فيها بحسب ما ذكر عدد من المؤرخين أنّ حربًا جرت بينه وهو مازال واليًّا على الحِلَّة، وبين أخيه علي بن دبيس، تمخَّضت الحرب عن مقتله، وآلت الإمارة إلى عليٍّ واستقرت له الأمور، وهذا ما أغاض السلطات السلجوقيَّة المتحكِّمة في بغداد حيث أرسل السلطان السلجوقي حملة عسكرية لمحاربة علي وإخراجه من الحِلَّة عام 542هـ, وقد اختلفت الروايات التي قدَّمها كل من ابن الجوزي وابن الأثير, فأمَّا ابن الجوزي فقد قال: "إنَّ السلطان أرسل مكتوبًا إلى شحنه بغداد المسمى سلاركرد يأمره فيها بأخذ البلاد المزيديَّة من عليٍّ, غير أنَّ عليًّا لم يسلمها بل حارب جيش سلاركرد, وخسر المعركة, فذهب إلى واسط وهناك جمع الجيوش ورجع إلى الحِلَّة فملكها", فيما ذكر ابن الأثير: " قد كثرت الشكاوى ضد علي, فلذلك أقطع السلطان الحِلَّة لسلاركرد الذي كان حينذاك في همذان فسار سلاركرد بعسكره, واجتمع إليه جيش بغداد ثم قصد الحِلَّة وبعد معركة حامية أنهزم عليٌّ وملك سلاركرد الحِلَّة, ويضيف ابن الأثير أنَّ عليًّا ذهب إلى واسط فجمع العساكر ورجع إلى الحِلَّة فأخذها من سلاركرد الذي عاد إلى بغداد ". إنَّ الاختلافات الموجودة بين هاتين الروايتين غير جوهريَّة ولا تُغير كثيرًا من فحوى الحادثة التي يمكن تعليلها بأنَّ السلطان أخذ يخشى مِن أن يستعيد عليٌّ المكانةَ نفسها التي احتلها أبوه وجده من قبل فأراد القضاء عليه, وأمَّا مسألة الشكاوى التي ذكرها ابن الأثير فلا أساسَ لها في الواقع وما هي إلَّا تعليلات حاول السلطان استغلالها للانقضاض على الإمارة المزيديَّة التي أثبت علي كفاءة عسكريَّة فذه في القضاء على الحملة ودحر الغزاة. ولم تتوقف الحملات الحاقدة في القضاء على الإمارة المزيديَّة، فبعد وفاة علي بن دبيس عام 545هـ بمرض القولنج، وتعيين ابنه المهلهل مكانه، عادت المؤامرات من جديد للقضاء على معقل التشيع ففي عام 547هـ تنافس السلاجقة والعباسيون، على إسقاط الإمارة وفاقًا لما ذكره ابن الأثير أنَّه بعد موت السلطان مسعود، سيّرَ السلطان الجديد ملكشاه، القائد السلجوقيّ سلاركرد في جيش ضخم لاحتلال الحِلَّة, ولكن مدة احتلاله كانت قصيرة إذ استطاع مسعود بلال شحنة بغداد أن يتغلب على المدينة سنة 547هـ / 1152م, ويخضعها لسيطرته, وفي تلك المدة أصبحت الحِلَّة تتأرجح مابين السلاجقة والخلافة في بغداد، حيث قام الخليفة المقتفي لأمر الله بتجريد جيشٍ لمحاربة مسعود بلال تمكَّن في النهاية من إبعاد السلاجقة عن الحِلَّة وإخضاعها لسلطة الخليفة, ولم يذكر المؤرخون شيئًا عن أوضاع الحِلَّة في تلك الحقبة، ولم يذكر إبن الأثير كذلك شيئًا يُستشف منه أنَّ المهلهل بن علي كان أميرًا على الحِلَّة, وما يفهم من روايته أنَّ الحِلَّة لم تعد خاضعة للمزيديِّين، وبعد تلك الحوادث انقطعت أخبار بني مزيد، وطويت آخر صفحة من سجل تلك الإمارة التي اتخذت من مدينة الحِلَّة مركزًا للتشيع وملاذًا لعلماء الشيعة، لكن بانتهاء تلك الإمارة استمرت مدينة الحِلَّة منارًا للعلم والعلماء؛ إذ قصدها المئات من طلاب العلم لما يقارب من 400 سنة بعد انتقال الحوزة العلميَّة إليها إبَّان القرن السادس الهجري .

صور من الموضوع ...

يمكنم الاتصال بنا عبر الهواتف ادناه :
00964-7602320073
00964-7601179478
او مراسلتنا عبر البريد الألكتروني :
turathhi@gmail.com

للاستمرار، اكتب ناتج المعادلة الآتية :

للأسف، نتيجة خاطئة، حاول مجددا.


جاري التحميل ...

{{Msg.p}} ,
{{Msg.text}} .

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...