أعلام
مؤيد الدين محمد بن العلقمي

للتاريخ حكايات، وحكاية التاريخ مع ابن العلقمي لم تنته بعد، فهذا الرجل ظُلم في حياته وبعد مماته، حامى عن دينه فحاربوه، ودافع عن بلاده فامتهنوه، وقرّب العلماء فلاموه، نصح فأتُهم، وعفّ فالتُقم، ولكنه ظل يحمل هموم الأمة الإسلامية، في أصعب منعطف مرت به، ذلك هو الوزير ابن العلقمي النيلي الحلي. مؤيد الدين أبو طالب محمد بن أحمد بن محمد العلقمي، وزير المستعصم، يقول الكتبي: " محمد بن محمد بن علي أبو طالب مؤيد الدين بن العلقمي البغدادي الرافضي وزير المستعصم"، أما الزركلي فيقول: " ابن العلقمي محمد بن احمد (أو محمد بن محمد بن احمد) بن علي مؤيد الدين الأسدي البغدادي المعروف بابن العلقمي "، ويذكر ابن الفوطي في ترجمة ابن الوزير ابن العلقمي: "عز الدين أبو الفضل محمد بن الوزير مؤيد الدين محمد بن احمد العلقمي الاسدي "، أما بالنسبة إلى قبيلته فيقول ابن الطقطقي: "هو أسدي أصلهم من النيل"، ومن هذا يظهر جلياً أن ابن العلقمي أسدي، وليس دارمياً تميمياً، وأنه كان يسكن النيل، ثم ارتحل إلى بغداد لاحقا، وصنّف له ابن أبي الحديد (نهج البلاغة)، في عشرين مجلداً، و(السبع العلويات) وغيرها، وصنف له الصاغاني اللغوي (العباب)، ومدحه الشعراء، وأثنى عليه الفضلاء، وقد مدحه كمال الدين بن البوقي بقوله : مــــؤيد الدين أبـــو طالب محمد بن العلقمي الوزير يقول ابن الطقطقي صاحب الفخري(ت709ه) بخصوص هذا البيت:" وهذا بيت حسن جمع فيه بين لقبه وكنيته واسمه واسم أبيه وصنعته".. تضاربت الآراء حول لقبه (العلقمي) فقد قيل أن جده حفر النهر المسمى بالعلقمي في كربلاء، وهذا ما يراه ابن الطقطقي، أما المرحوم السماوي فقد ذهب إلى أن اسم جده علقمة، ونرى ذلك واضحا في هذه الأبيات فهو يقول : كان الفرات من على الأنبار يأتي إلى بابل وهو جار وكل يوم يسقي أرضه يشق نهرا من عرضه فشق منه الغاضريون فما اعتم إن جرى لكربلا بما ليزر عوافيه ويدركوا السبب فعزي النهر اليهم وانتسب وشق (فناخسرو) نهرا رسمه لكربلا وناطه (بعلقمه) الأسدي جد آل العلقمي فاصبح النهر إليه ينتمي وهناك رأي يقول إن أسرة مؤيد الدين كانت تسكن في منطقة بئر العلقمي، وسمي بذلك لكثرة نبات الحنظل فيه، وبمرور الزمن درس هذا النهر، فنزحت أسرته إلى النيل، في ضواحي الحلة، فابن العلقمي منسوب إلى هذا النهر . ولد مؤيد الدين بن العلقمي في شهر ربيع الأول سنة (591هـ)، على قول الصفدي في (الوافي بالوفيات)، وقد أغفلت المصادر مكان ولادته، وبعد إن ترعرع تتلمذ على أبي البقاء العكبري، ويقول الساعدي: " إنه كان موجودا في الحلة حتى سنة (616هـ)، وهي السنة التي توفي فيها أستاذه الأول ومربيه أبو البقاء العكبري"، ولأبي البقاء العكبري أثر كبير في تنمية شخصيته، وصقل مواهبه، بما يتمتع به من علم غزير، ومقدرة جذابة لهما الأثر في نبوغ ابن العلقمي في تحصيله الدراسي . شد مؤيد الدين بن العلقمي الرحال إلى الحلة طلبا للعلم، وهو في منتصف العقد الثاني من عمره، وتتلمذ على أبي منصور هبة الله بن حامد الحلي اللغوي الفقيه، وراح يجد ويجتهد في تحصيله، ثم راح يرتاد المجالس العلمية، التي كانت قد ازدهرت في الحلة، ولعل أشهر تلك المجالس هو مجلس آل طاووس، وقد انشأ علاقة وثيقة، وصداقة متينة مع السيد رضي الدين علي بن طاووس، وكذلك تتلمذ على المحقق الحلي، فأفاض عليه من علمه الغزير حتى أصبح يشار إليه بالبنان، وبعد ذلك عاد إلى بغداد، حيث مقر العائلة في الكرخ، ومكث عند خاله للإفادة من مركزه الحساس لدى الخليفة، وقال الخزرجي في وفيات سنة (656هـ): "وفي هذه السنة توفي الوزير مؤيد الدين محمد بن محمد بن العلقمي البغدادي الرافضي، وكان عالماً فاضلاً أديباً حسن المحاضرة دمث الأخلاق كريم الطباع خير النفس، كارهاً للظلم خبيراً بتدبير الملك لم يباشر قلع بيت ولا استئصال مال، اشتغل بالنحو، وعلم الأدب، في شبيبته، بالحلة، على عميد الرؤساء (هبة الله بن حامد) بن ايوب ثم قدم بغداد وقرأ على أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري ثم انضم إلى خاله أستاذ دار الخلافة عضد الدين أبي نصر المبارك بن الضحاك، وكان شيخ الدولة فضلاً وعلماً ورئاسة وتجربة فتخلق بأخلاقه وتأدب بآدابه، واستنابه في ديوان الأبنية وشغله بعلم الإنشاء إلى أن توفي خاله، فانقطع ولزم داره، واستمر شمس الدين أبو الأزهر أحمد بن الناقد أستاذ الدار فاستدعى مؤيد الدين إلى دار التشريفات وأمره بالتردد إليها في كل يوم ومشاركة النواب بها، فلما نقل أستاذ الدار أحمد بن الناقد إلى الوزارة نقل مؤيد الدين إلى أستاذية الدار فكان على ذلك إلى أن توفي الوزير أحمد بن الناقد فانتقل مؤيد الدين إلى الوزارة ولم يزل على ذلك إلى أن أنقضت الدولة العباسية وأقرّ في الدولة التترية على الوزارة". يصفه ابن الطقطقي بأنه " كان رجلا فاضلا، كاملا، لبيباً، كريما، وقوراً، محبا للرياسة، كثير التحمل، رئيسا متمسكا بقوانين الرياسة، خبيرا بأدوات السياسة، وكان يحب أهل الأدب ويقرب أهل العلم ... وكان عفيفا، لا يدنس نفسه بأموال الديوان، أو أموال الرعية منزها مترفعا عنها "، وقد ذكر إن بدر الدين صاحب الموصل أهدى إليه هدية مشتملة على كتب، وثياب تقدر قيمتها بعشرة آلاف دينار، ولما تسلمها أخذها إلى الخليفة، واهدى إلى صاحب الموصل لطائف من بغداد، تقدر قيمتها اثنا عشر الف دينار، والتمسه أن لا يرسل له شيئا بعد ذلك، كما ينقل ابن الطقطقي، وهذا يدل على أمانته، ونزاهته، واعتزازه، وتقديره للصديق، ولم يكن ابن العلقمي على وفاق مع حاشية الخليفة فكانوا يكرهونه ويحسدونه لمكانته عند الخليفة واتهمه الناس بانه كان (مخامرا) حاقدا، وهو ليس كذلك، يقول الدكتور مصطفى جواد: ونسبة بعض المؤرخين ومن لفّ لفهم تسريح الجنود إلى الوزير ابن العلقمي تهمة أخرى من هذه التهم الكثيرة الباطلة التي اتهم بها هذا الوزير فإن إدارة شؤون الجيش والتجنيد وعطاء الأرزاق كان بيدي مقدّم الجيش مجاهد الدين أيبك الدو يدار الصغير خصم الوزير وعدوه ولا شأن للوزير فيها ولا نهي ولا أمر فبأي وجه يتهم الرجل بإقلال عدة الجنود بالحل والتسريح؟ أما عزو التحريض على قتل العلماء والفقهاء إلى ابن العلقمي فهو تهمة باطلة أيضاً، ونذكر لتفنيدها ما جاء في كتاب الإجازات من بحار الأنوار نقلاً من خط الشيخ محمد بن علي الجبعي "مات الوزير السعيد العالم مؤيد الدين أبو طالب محمد بن أحمد العلقمي سنة ست وخمسين وستمائة، استوزره المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين وكان قبله أستاذ الدار في عهد المستنصر ثم استوزره السلطان هولاكو مزيل الدولة العباسية فلم تطل مدته حتى توفي إلى رحمة الله عام الواقعة سنة ست وخمسين وستمائة ثاني جمادى الآخرة، وكان رحمه الله إمامي المذهب، صحيح الاعتقاد، رفيع الهمة محباً للعلماء والزهاد كثير المبار". كان مؤيد الدين بن العلقمي أحد ثلاثة من أرباب دولة بني العباس أراد هولاكو حضورهم لتمثيل الدولة العباسية، وبيان الأسباب في تلكؤها في الإذعان للدولة المغولية والدخول في طاعتها، وإن اثنين من هؤلاء الثلاثة أمر بقتلهما بعد ثبوت جرمهما عندها والثالث هو الوزير ابن العلقمي نجا مع جماعة من أصحاب الدولة واستوزر فلو كان مخامراً لهولاكو ومبُاطناً ومُراسلاً ما احتاج أن يدخله في عداد الثلاثة ولا اهتم بحضوره وحمله الرسالة، فهذا يدل على أن الرضا عنه وقع بعد سؤاله عن سبب اضطراب السياسة العباسية وتقديمه في أنه كان من رأيه الطاعة للدولة المغولية التي يمثلها هولاكو واستشهاده شهوداً على صدق قوله من أرباب الدولة نفسها كفخر الدين أحمد بن الدامغاني وتاج الدين علي بن الدوامي، وبعد قتل الخليفة أولاه ثقته، ولم يتعرض إلى الحلة والنجف وكربلاء بسوء لأن ابن العلقمي أوعز إلى الحليين بتشكيل وفد إلى السلطان، وعرض مطالبهم، وفعلا سافر الوفد إلى السلطان هولاكو والتمسه أن لا يتعرض إلى مدينة الحلة ومدينتي النجف وكربلاء المقدستين، وكان ابن طاووس أحد اعضاء الوفد واستجاب لطلبهم . لقد كان لمؤيد الدين بن العلقمي باع طويل في الشعر والأدب، ولكن "كان يغلب على شعره روح التشاؤم واليأس إلا إنه يتميز بجزالة اللفظ ودقة المعنى وحسن السبك ورقة الشعور"، حسب ما ينقل الساعدي. فمن شعره قوله : ثراؤك موهوب وبرك كامل وحظك مسعود وفضلك منجح وفعلك محمود ورأيك صالح ووجهك وضّاح وسعيك مصلح وطبعك مشكور وعرضك سالم وجدك منصور وراجيك مفلح وقال يرثي ولده : بني الذي اهدت يداي إلى الثرى فيا خيبة المهدي ويا حسرة المُهدي لقد قل بين اللحد والمهد عهده فلم ينس عهد المهد أوضم في اللحد يقول الساعدي (أما نثره فهو كثير الاستعارة ... كثير السجع كثير التضمين ومنشأ هذا تأثره بأساليب اساتذته الذين درس على ايديهم من جهة وما اعتادته الدواوين الخليفية من انماط المراسلات من جهة اخرى )، ولعل رسالته التاريخية التي اهتم بها المؤرخون، والتي ارسلها إلى ابن صلايا، وذكرها السبكي خير نموذج : قال : ( انه قد نُهب الكرخ المكرم وقد ديس البساط النبوي المعظم وقد نهبت العترة العلوية واستأسرت العصابة الهاشمية فلهم اسوة بالحسين عليه السلام حيث نُهب حريمه واريق دمه . وقد عزموا لا اتم الله عزمهم ولا نفذ امرهم على نهب الحلة والنيل بل سولت لهم انفسهم أمرا فصبر جميل : أرى تحت الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون لها ضرام فإن لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام) والرسالة أرسلت على إثر هجوم ابن الخليفة، والدو يدار الصغير على الكرخ فعاثوا بالشيعة فيها قتلاً، ونهباً، وتدميراً، على أثر الفتنة الطائفية التي اندلعت في بغداد آنذاك . بعد احتلال هولاكو بغداد، سلمت إلى مؤيد بن العلقمي فمكث شهورا يدير أمور المدينة، يعاونه (الشحنة) على تسيير أمور البلد، ثم مرض ابن العلقمي وتوفي في جمادى الأولى سنة (656هـ)، كما يذكر ابن الطقطقي، وذكره مؤلف الحوادث في وفيات سنة (656هـ) قال: (ذكر من توفي الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في جمادى الآخرة ببغداد، وعمره ثلاث وستون سنة، كان عالماً فاضلاً أديباً يحب العلماء ويسدي إليهم المعروف)، وقال قبل ذلك: (فتوفي الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في مستهل جمادى الآخرة ودفن في مشهد موسى بن جعفر (عليهما السلام) فأمر السلطان (هولاك) أن يكون ابنه عز الدين أبو الفضل وزيراً بعده).