المدارس الدينية
أسباب ظهور وازدهار مدرسة الحلة العلمية

إن ما احتوته مدينة الحلة من إرث حضاري تمثل في احتضان ثراها ، ووطأ أرضها الأئمة (عليهم السلام) فكانت مهد الأنبياء ودوحة العلماء. تأسست للشيعة في الحلة الفيحاء جامعة كبيرة كانت تحفل بكبار العلماء، وتزدهر بالنشاط الفكري، وعقدت فيها ندوات البحث والجدل العلمي، وأنشئت فيها المدارس والمكاتب، وظهر في هذا الدور فقهاء كبار كان لهم الأثر الكبير في تطوير الفقه الشيعي وأصوله، ومن الأماكن المعظمة قبل تمصير الحلة سنة 495هـ، الذي نال اهتمام المزيديين وسجلت له كرامات كثيرة هو مكان أول تاريخ لغيبة أحد سفراء الإمام الحجة (عليه السلام) في الحلة في عهد الدولة البويهية, وبنيت على أرض الدرس ومنام الطلبة خانات آلت إلى تجار كبار ثم تحول إلى محال تجارية، وكُتب في المدرسة أروع المخطوطات لمدرسة الحلة العلمية أيام ازدهارها الفكري. ويمكننا تلخيص الأسباب والعوامل التي ساعدت على ازدهار الحياة الفكرية وظهور مدرسة الحلة العلمية، في النقاط الآتية: 1- الأمراء المزيديين: تمثل دورهم باهتمامهم المتميز بالعلم ورجاله، فاحتضنوا العلماء والأدباء وقربوهم، وأجزلوا لهم العطايا والهبات، حتى أصبحوا مقصداً من قبل العلماء والفضلاء. مَصَّرَ الحلة الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد الاسدي، في منطقة الجامعين سنة 493هـ/1199م، واستكمل بناؤها سنة 495هـ/1101م، وسكنها مع أهله بعد انتقالهم من النيل، وسميت : الكوفة الصغرى؛ لكثرة ما فيها من الشيعة، ووُصِف الأمير صدقة بأنه: جليل القدر، جميل الذكر، كان يلجأ إليه الجاني العظيم الشأن على الخليفة والسلطان، فلا تطرقه طرائق الحدثان، شديد المحافظة على من يستجيره. أما بخصوص المعنى اللغوي لكلمة (حلة) والمسميات المرتبطة بها، فأن الحلة تعني : القوم النزول وفيهم كثرة، وأطلقت هذه التسمية على أكثر من موضع منها: الحلة قرب الحويزة التي بناها دبيس بن عفيف، وحلة بني قيلة بشارع ميسان بين واسط والبصرة، وحلة بني المُراق بالقرب من الموصل، وهي لقوم من التركمان سموا بهذا الاسم ، والرابعة وهي أشهرها: حلة بني مزيد، التي عُرفت بـ: الحلة السيفية نسبة إلى الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور الأسدي المزيدي الذي مَصَّرها. كان لسيف الدولة مكتبة تضم ألوف المجلدات ، وعرف بحبه للشعر وسماعه، وكان يهتز للشعر اهتزاز الإعزاز، يُقبل على الشعراء، ويمدهم بحُسن الإصغاء وجزيل العطاء، وَوُصِف الأمير صدقة خاصة بأنه كان يغترف من بَحر جُوده فقير العرب والغني، وانه رئيسٌ كاملٌ سيرتهُ من أجّل السِـيَّرْ وأحسنها، كما وصف ابن خلكان الأمير نور الدولة دُبيَس بن صدقة بالجود والكرم ومعرفة الأدب والشعر، وقال عنه ابن الطقطقي مؤلف كتاب: الفخري في الآداب السلطانية: ((كان أحد أجواد الدنيا كان صاحب الدار والجار والحِمى والذَمار وكانت أيامه أعياداً وكانت الحلة في زمانه محط الرِحال وملجأ بني الآمال ومأوى الطريد ومعتصم الخائف والشريد)). ولمهيار الديلمي (مهيار بن مرزويه المتوفى سنة 428هـ/1037م)، الشاعر الشيعي المعروف أبياتاً في مدح الأمير نور الدولة دُبيس بن مزيد، نظمها سنة 416هـ/1025م، منها: وإن ببابلَ منكم لبحراً لو أن البحر جادَ كما يَجُود اذا الوادي جرى ملحاً أُجاجاً ترقرقَ ماؤه العذب البرُودُ فتى السن مُكتهلُ حِجاه طريف المُلك سؤدده تليدُ اذا اشتبهت كواكبهم طلوعاً فنُور الدولة القمرُ الوحيدُ وهكذا كان الأمراء المزيديون من محبي العلم والأدب ومشجعيهما ومؤازريهما، والحديث عن مآثرهم وكرمهم يطول بنا في هذا المقام، لذا اكتفينا بتوضيح دورهم في ازدهار الحياة الفكرية في الحلة في بواكير نشأتها الأولى، بعد اتخاذها عاصمة لإمارتهم الفتية الناشئة . 2-الموقع الجغرافي مدينة الحلة بين مدرستين لهما تاريخ علمي زاهر، هما: مدرسة بغداد: (مدرسة الشيخ المفيد)، محمد بن النعمان العكبري ،المكنى: أبي عبدالله والملقب بـ: المفيد، الذي يعد من أَجّل مشايخ الشيعة ورئيسهم، له قرابة مائتي مُؤلَف، توفي سنة 413هـ/1022م. والمدرسة الثانية: مدرسة النجف (مدرسة الشيخ الطوسي)، أبو جعفر محمد بن الحسن (المتوفى سنة 460هـ/1068م)، الذي دخل بغداد سنة( 408هـ/1017م)؛ ليرتوي من نميرها العذب الفياض، فاتصل بشيوخ العلم فيها، وأشهرهم: الشيخ المفيد والشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد وغيرهما، وأفاد كثيراً من آثار بغداد العلمية وخزائن كتبها، وخاصة خزانتي كتب سابور بن أردشير والشريف المرتضى، وألف في بغداد قسماً من مصنفاته، أشهرها: التهذيب والاستبصار، وهما من الكتب الأربعة المُعتمدة عند الشيعة الإمامية، وبعد وفاة أستاذه السيد المرتضى سنة 436هـ/ 1044م، أصبحت داره في الكرخ مقصد كل أديب وملتقى كل عالم نجيب. من جهة أخرى كان لموقع الحلة المتوسط بالنسبة إلى المراقد المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية أثره الكبير في ازدهار الحياة الفكرية فيها، فضلاً عن نشاط الرحلة العلمية مروراً بها. ولما كانت الحلة مركزاً من مراكز الشيعة الإمامية منذ وجودها؛ لذلك كان أمراؤها وسائر سكان منطقتها من الشيعة الإمامية، وظلت الحلة على عقيدتها: شيعية إمامية حتى بعد زوال الإمارة المزيدية، فهذا الشاعر عبد الرحمن الكناني المتوفى سنة 629هـ/1231م، يقول في راجح الأسدي الحلي: يقولون لي ما بال حَظِكَ ناقصاً لدى راجحٍ ربِ السَماحة والفضلِ فقلتُ لهم: اني سَمِيُ ابن مُلجم وذلك إسم لا يقول به حِليِ نستدل من هذا الشعر ان الشاعر عبد الرحمن الكناني كان متشائماً وحظه ناقص بسبب اسمه؛ لأنه على اسم قاتل الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وهو: المجرم عبد الرحمن بن ملجم. وذكر الرحالة العربي المغربي ابن بطوطة الذي زار الحلة سنة 727هـ /1327م ، ان أهل هذه المدينة إمامية اثني عشرية، وهم طائفتان: أحدهما تعرف بـ: الأكراد، والأخرى تُعرف بـ: أهل الجامعين. 3- سلامة مدينة الحلة من الخراب والدمار طال الدمار معظم المدن العراقية الأخرى خلال دخول المغول لبغداد سنة 656هـ/1258م، الا مدينة الحلة, وكان لهذا الأمر تأثيره المهم في حماية المخزون العلمي الموجود أصلاً فيها، الذي نُقِل من بغداد إليها، للمحافظة عليه من التلف والضياع، وبخصوص سلامة مدينة الحلة من الخطر المغولي الذي كان يهدد مدينة بغداد، فان أهل الحلة لما شعروا بذلك الخطر نزحوا إلى المناطق المجاورة مثل: الكوفة والبطائح، مصطحبين أبناءَهم وأموالهم؛ خوفاً من القوات المغولية الغازية ، خصوصاً بعدما عرفوا ما قامت به تلك القوات من أعمال وحشية في المناطق التي سيطرت عليها. وبعدما عرف وجهاء وفقهاء الحلة عجز الخليفة العباسي المستعصم بالله عن مواجهة المغول، قاموا بمراسلة قادة المغول، فأرسلوا وفداً لمقابلة هولاكو، برئاسة السيد مجد الدين محمد بن طاووس الحسني المتوفى سنة 656هـ /1258م، فأعطاهم هولاكو الأمان، وعينه نقيباً للبلاد الفراتية، فشمل الأمان أهالي الحلة وكربلاء، عند ذلك عاد أهل الحلة النازحين إليها، وسلمت من الخراب والدمار الذي طالَ بغداد، وأرسل هولاكو قوة إلى الحلة؛ للتعرف على موقف أهلها ، ثم سحبها، بعدما تعرّف على صِدق نواياهم. وهكذا تمكن علماء الحلة من حفظ المدينة وتراثها العلمي الواسع والمتنوع، فضلاً عن المراقد المقدسة في النجف وكربلاء، من الدمار الذي طالَ معظم المدن التي امتنعت عن فتح أبوابها للمغول. ازداد التلاقح الفكري بين مدرستي الحلة والنجف خلال القرنين السابع والثامن الهجريين/ 13- 14 الميلاديين، إذ تحولت مدرسة النجف إلى الحلة منذ القرن السادس الهجري/ 12م واستمر ذلك حتى القرن الثامن الهجري/ 14م، فقد ذكر السيد عبد الكريم بن طاووس (ت 693هـ/1294م) رواية في كتابه: (فرحة الغري) عن عَلَمين من علماء مدرسة النجف هما: الشيخ الحسين بن عبد الكريم الغروي والحسين بن عبدالله طحال، وهذا دليل على استمرار مدرسة النجف في الوجود، إلا انها ليست بالمستوى الذي كانت عليه أيام الطوسي. وبسبب استقرار مدينة الحلة قصدها رجال الفكر من مدن العراق العديدة، مثل: بغداد، هيت، واسط، الانبار، وتكريت، فكان لهذه المدن حضور متميز في مدينة الحلة، كما قصدها طلبة العلم ورجاله من أقاليم العالم الإسلامي للدراسة، وأبرزها: بلاد فارس والبحرين وبلاد الشام ومصر، وكان عدد العلماء في ازدياد مستمر خلال القرن 7هـ/13م، وهو القرن الذي وصلت فيه مدرسة الحلة إلى أوج ازدهارها ورفعتها، فازداد عددهم مقارنة عما كانوا عليه في القرن السابق له، وضمت المدينة كبار علماء الإمامية وفضلائهم وأدبائهم، الذين اشتهروا بعلوم واختصاصات علمية متعددة في مختلف صنوف العلم والمعرفة. 4- تشيع بعض الإيلخانات المغول مثل : اتخاذ محمود غازان ومحمد خدابنده التشيع الإمامي مَذهباً لهم، وهذا الأمر كان ذا أهمية متميزة وتأثير كبير في استقرار مدينة الحلة نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن الهجريين /13-14م ، مما أدى إلى انتعاش المدينة خصوصاً أيام حكم السلطان محمد خدابنده، الذي قَرّب العلماء خصوصاً العلامة الحلي (جمال الدين الحسن بن يوسف المطهر 648-726هـ/ 1250-1326م)، وهو عالِم فقيه فاضل، له مؤلفات عديدة تربو على مائة مُصنف، منها: كتاب منتهى المطلب، وولده فخر المحققين محمد، المولود سنة 682هـ/1284م، والمتوفى سنة 771هـ/1370م. كان سبب اعتناق السلطان محمد خدابنده المذهب الإمامي على اثر مسالة حضرها العلامة الحلي بطلب من السلطان نفسه، وتمكن العلامة الحلي من إلقاء الحجة على العلماء الموجودين من المذاهب الأخرى، فاعتنق السلطان المذهب الإمامي، وقد أهدى العلامة الحلي للسلطان المغولي محمد خدابنده كتابه: (كشف الحق ونهج الصدق)، الذي أوضح فيه المسائل التي خالفَ فيها ما جاء به علماء السُنة. 5- بروز عدد من العلماء: الذين أصبحوا عوامل استقطاب لطلبة العِلم، فكان لهم الأثر الواضح في تنشيط الرحلة العلمية إلى مدينة الحلة، مثل: محمد بن ادريس الحلي والمحقق الحلي والسيد رضي الدين علي بن موسى بن طاووس وغيرهم الكثير. وهكذا تميزت مدينة الحلة بتأسيس مدرسة علمية شهيرة ومتميزة، متخصصة بمذهب التشيع الإمامي الاثني عشري ، وقد استمرت هذه المدرسة قرابة أربعة قرون: 562-951هـ/1166- 1544م، أي بحدود (389) سنة ، بعدما انتقل السيد علي بن حمزة بن شهريار، ابن خالة السيد محمد بن إدريس، من النجف إلى مدينة الحلة، ونقل الحوزة العلمية إلى الحلة، واستمرت هذه المدرسة العلمية حتى وفاة السيد إبراهيم بن سليمان القطيفي سنة 951هـ/1544م.