قراءة في كتاب (خمس رسائل لـ فخر المحققين)

يعدُّ البحث في التراث، واستخراج نفائسه، وإظهارها للناس، وبعث الروح فيها، من جملة الاعمال الوطنية والدينية، فهي تسهم في ربط حاظر الامة بماضيها، وترسخ الوشائج بين أبناء الحاضر مع اسلافهم من الماضي المجيد، الذين صنعوا التاريخ وارتقوا إلى رتب عالية في الفن والمعرفة، والحلة واحدة من المدن الغنية عن التعريف والتوصيف، التي أسهمت في الحفاظ على روح ووعي الإسلام المحمدي الأصيل، الذي يمتاز بالتسامح والوسطية والمحبة، ومن جملة أعلام الحلة الذين تفاخر به البلدان، الإمام العالم النحرير، محمد بن الحسن ابن المطهر الحلي، فخر المحققين وشيخ المدققين، وارث العلامة على الإطلاق العلامة الحلي، وحرصا من مركز تراث الحلة التابع للعتبة العباسية المقدسة، على إظهار نفائس هذا العلم الهمام، عكفت ثلة خيرة من الباحثين والعاملين في المركز، على إظهار هذا الكتاب المهم والفريد في بابه، وهو كتاب (خمس رسائل لفخر المحققين محمد بن الحسن ابن المطهر الحلي)، وهو كتاب من تأليف تلكم الثلة الطيبة من حماة المذهب الحق في مركز تراث الحلة، وقد اشتمل الكتاب على خمس رسائل كلها أسئلة في صنوف العقائد والعبادات، كان قد سألها ثلة من الأفاضل الأماجد، من تلاميذ الفخر وأقرانه في ذلك الزمان "القرن الثامن للهجرة الشريفة)"، فمن أبرز تلاميذه رضوان الله عليه وعليهم، السيد حيدر الآملي صاحب التصانيف العظيمة في التوحيد والعقائد، والسيد ناصر الدين حمزة بن حمزة العلوي وغيرهم. كان المنهج في تحقيق هذه الرسائل، موحدا وهادفا ويدل على حرفة ودربة في الفن، وأول رسالة تضمنها الكتاب هي رسالة (أجوبة المسائل الناصريات)، و(أجوبة المسائل الآمليات)، ورسالة فيها (ثلاثة وأربعون حديثا عن النبي وآله)، ورسالتان مزدوجتان فيهما مسائل متفرقة عن أمور الحلال والحرام والعقائد والإمامة وغيرها. الرسالة الأولى: أجوبة المسائل الناصريات. وهي مخطوطة فريدة تضمنت تلكم المسائل، تم تحقيقها وضبط نصها وتخريج شواهدها، وقد تضمنت جملة من المسائل في مواضيع متفرقة، التي سألها ناصر الدسين السيد حمزة بن حمزة العلوي الحسيني، لشيخه وأستاذه فخر المحققين محمد بن الحسن ابن يوسف ابن المطهر الحلي، في سلخ شهر رجب الأصب، لسنة ست وثلاثين وسبعمائة، فأجاز روايتها له وجميع مصنفاته ومصنفات أبيه، وكانت موضوعات الأسئلة هي الطهارة والحج والخمس والإرث وغيرها، بدأها بسؤالٍ عن (غسل الدين المستحب)، وختمها بسؤالٍ عن (قضاء الواجب..). الرسالة الثانية: أجوبة المسائل الآمليات. وهي مخطوطة من نسختين، كانت نسختها الأولى بخط السيد حيدر الآملي رضوان الله عليه، وقد اشتملت الرسالة على ثلاث عشرة مسألةً في موضوعات الاعتقاد والخمس وغيرها، وتميزت أسئلة السيد الآملي بالدقة والشمولية والعمق، وكانت أجوبة الفخر رضوان الله عليه، تمثل رأيه ورأي أبيه العلاّمة، وتميزت بالإجياز والدقة والتعضيد بالأدلة، كما يليق بجواب العالم على سؤال العالم، بدأ السيد حيدر الأسئلةَ، بسؤال عن (وجوب معرفة الله "سبحانه" ومعرفة صفاته الثبوتية والسلبية)، وختمها بسؤال عن (كفّارة اللواط في نهار شهر رمضان). والسيد حيدر الآملي، من تلاميذ فخر المحققين (رض)، ومن أعلام المذهب في القرن الثامن للهجرة، ومن مؤلفاته المهمة كتاب (جامع الأسرار ومنبع الأنوار) وكذلك كتاب (فص الفصوص في شرح فصوص الحكم)، وكتاب (فصوص الحكم) لابن عربي الاندلسي، ومن مؤلفاته (رسالة في التنزيه)، وكذلك هذه الرسالة التي بين يدي القارئ الكريم، ومؤلفات أخرى. الرسالة الثالثة: ثلاثة وأربعون حديثا عن النبي (ص) وآله. وهي رسالة وضعها فخر المحققين رضوان الله عليه، عملا بالحديث النبوي (مَنْ حفظ على أمتي أربعين حديثاً ينتفعون بها، بعثه الله يوم القيامة فقيها عالماً)، واطلاقا من هذا الحثّ النبوي، جاءت هذه الرسالة المباركة، لينتفع بها المؤمنون في كل زمان ومكان، وقد كان منهج الشيخ محمد بن الحسن في رسالته هذه، موافقا لمنهج علماء الحديث، إذ أثبت سلسلة اسانيد هذه الاحاديث إلى النبي (ص) وآله، أو اثبتها حتى زمان شيخ الطائفة الطوسي في القرن الخامس للهجرة، ثم من بعدها اعتمد على سلسلة رواة الحديث الذين اعتمدهم الشيخ الطوسي، وبهذا يكون المنهج موحدا ومتسقا في هذه الرسالة، وقد بدأها بحديث عن (حكم المذي)، وأثبت سلسلة إسناده معنعنة إلى الإمام أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، وعنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وختمها "الرسالة"، بحديث عن (ما يستتر به المصلي ممن يمر بين يديه)، إذ نقل سنده عن الشيخ الطوسي إلى الامام الصادق عليه السلام، وكان قد الرسالة، الشيخ ظهير الدين علي بن يوسف النيلي (حيا 775هـ)، وهو من تلاميذ الفخر رضوان الله عليه ومن رواته، واحد شيوخ ابن فهد الحلي (ت 841هـ)، وقرأها مطالعة على فخر المحققين، تلميذه وصاحب الإجازة في الرواية عنه، الشيخ عماد الدين يحيى الكاشي، سنة (759 هـ). الرسالتين الرابعة والخامسة: المسائل المتفرقة الأولى والثانية. تعد هاتان الرسالتان من اهم الرسائل التي تكشف عن حذق وراسة فخر المحققين رضوان الله عليه، فهي أسئلة في أبواب متفرقة ومتباينة، وشملت جميع أبواب الدين، وكان فيها بعض الأسئلة التي تدل على أنها من المباحثات الفقهية الدقيقة بين العلماء، فهاتين الرسالتين بمثابة المسائل المنتخبة في زماننا الحاضر، غير أن الفرق بينها وبين المسائل المتفرقة، هو ان اغلب الأسئلة الواردة في هاتين الرسالتين، هي أسئلة العلماء للعلماء، وليست من قبيل أسئلة العوام للعلماء كما في المسائل المنتخبة، ومن هنا يمكن لهاتين الرسالتين، الكشف عن المزاج العلمي والمستوى الفقهي في ذلك الزمان، فلا يخفى على القارئ الكريم، ان السؤال يعد كاشفا عن الوعي ومبينا له، والجواب المحيط والدال والهادف، يدل على إحاطة بالسؤال وفهمه، وإحاطة بالجواب وفهم أبعاده في المباحثة الفقهية. المجموعة الأولى: بدأت بسؤال عن حقيقة بعثة أولى العزم من الأنبياء إلى الناس كافة، أم اختص بها نبينا المصطفى دون غيره؟ وختمت في حكم قلة الماء والمفاضلة بين سقي الشاة أو التيمم للصلاة، وقد اشتملت هذه المجموعة على غالبية الأسئلة المتفرقة، إذ بلغ عددها ستا وخمسين مسألة وأتبعها بفائدتين في الذين، وكانت موضوعات المسائل في أبواب الطهارة والشفاعة والحج والتقليد في الصلاة والخمس والعدالة وغيرها، وكلها أسئلة دقيقة وغير مألوفة، وتدل على انها من المباحثات الفقهية. المجموعة الثانية: لا تختلف هذه المسائل عن المجموعة الأولى في شيء، الا انها كانت أقصر وأقل من حيث العدد، فهي في ثلاث عشرة مسألة، بدأت بسؤال في الاعتقاد وهو (ما الفرق بين النبي والإمام)، وختمت بسؤال عن النجاسة المنتقلة، وكانت موضوعات الرسالة في أبواب الاعتقاد والصلاة وفضل امير المؤمنين عليه السلام وغيرها. ختاما، يعد هذا الكتاب الفريد في بابه، شمعةً وضّاءة تنير درب الباحثين والمتعلمين، الذي يريدون كشف نفائس الماضي المُزهر لهذه البلدة الطيبة "الحلة"، وتسليط الضوء على فقه وتراث علماء اهل البيت (عليهم السلام).