المدارس الدينية

الدرس العلميّ في مدينة الحلّة

الدرس العلميّ في مدينة الحلّة

كانت الحلّة منذ بواكير نشأتها رمزاً للنبوغ الفكريّ، والتطوّر المعرفيّ الذي امتد إلى أكثر من ثلاثة قرون، حملت فيها راية العلم إلى كل بقاع المعمورة، وما ذلك إلا بالدرس العلميّ الذي تميّزت به، وأسّست لمدرسة تميزت بها ووسمت بطابعها الذي مازال أثره جلياً وحاضراً حتى اليوم. لقد شهد القرنان السادس والسابع الهجريّان بواكير النهضة الفكريّة الكبرى في الحلّة، حتى تزعّمت الحركة العلميّة وامتد نشاطها ليغمر العالم الإسلامي، وبرز فيها أساطين العلماء والمفكرين والقرّاء والأدباء والأسر العلميّة أمثال آل المطهر، وآل طاووس، وآل سعيد، وآل محفوظ، وآل فخار، وآل معيّة وغيرهم، وبلغت ذروة هذا النشاط الفكريّ في القرن الثامن الهجريّ حتى أصبحت منازل العلماء والمساجد والمشاهد بيوتاً للدرس، وخاصّة مع كثرة الوافدين إليها من الشام، والبحرين، ومصر، وبلاد فارس، وبغداد، والموصل، وهيت وغيرها، فكثرت بيوت الدرس وأصبحت الحلّة مركزًا للنشاط الفكريً ساعدها بذلك استقرارها السياسي وقدرتها الاقتصاديّة ممّا شكّل عامل جذب للطلبة للاغتراف من مختلف العلوم والمعارف، إضافة للطبيعة المتسامحة للمذهب الشيعيّ، والدراسة الفقهيّة المستقلّة فيه . وكان التعليم في تلك الفترة ينقسم إلى ثلاث مراحل يتعلّم الطالب في الدراسة الابتدائيّة على يد الكتّاب أو(المؤدب)، ويراعى فيه السنّ فلا يتجاوز فيها الطالب مرحلة الصبا، وفيها يتعلم القراءة والكتابة والخط وحفظ بعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والفرائض، فيما لم تشترط الدراسة الثانويّة أو المتقدّمة عمراً لتحصيل العلوم، وللطالب الحريّة في ترك الدرس أو الاستمرار فيه حسب القدرة الذهنيّة للطالب، ومن يتولّى التدريس في المرحلة الثانويّة هم (الشيوخ) وهم بمنزلة أدنى من الفقهاء، وفق الإمكانيّة العلميّة في طرح وتبسيط المناهج الدراسية، بينما يدرس طلبة الاجتهاد أو الدراسات المتقدّمة في حلقات دروس منظّمة لدى العلماء والفقهاء حسب التخصّص وطبيعة الدرس العلميّ، وللطالب الحريّة في الدرس على يد من يشاء، أو الانتقال من مدرس إلى آخر، أو الدراسة على أكثر من مدرس، وفي أوقات متفق عليها مع المدرس، ويكون عليه التحصيل الذاتي والتحقيق في الكتب والمصادر التي كانت تنتشر في البيوت العلميّة والمساجد والمكتبات في الحلّة مثل خزانة سيف الدولة (ت501هـ)، وخزانة رضي الدين علي بن طاووس(ت664هـ). ومن أشهر مدارس العلم آنذاك حسب ما يذكر الدكتور زمان عبيد وناس(ملامح الحركة التعليميّة في الحلّة) مجلس ابن ادريس الحلّي (ت598هـ) والمحقّق الحلّي(ت676هـ) وأولاد نما، وابن المطهر الحلي(ت726هـ)، وكانت تبحث في حلقات درسها مختلف العلوم العقليّة والنقليّة من فقه وأصول، وتفسير، وحديث، ومنطق، وفلسفة، وعلم كلام ولغة، وغيرها من العلوم الفرعيّة الأخرى. ويمتاز المنهج الدراسي في الحلّة بخصوصيّة أنّه ينبع من الفكر الإمامي الشيعيّ، ولذا لم يتقيّد بالمنهاج الدراسي في بغداد وباقي المدن الإسلاميّة، فضلاً عن أنّه كان بعيدًا عن تدخلات السلطة وإملاءاتها، ولكنّه مع ذلك كان منفتحاً على العلوم ومصنّفات الفرق الإسلاميّة الأخرى، وكان منهج الدراسة في المرحلتين المتوسطة والمتقدّمة يعتمد التدرج في الدرس العلميّ من شروحات وحواشي وعرض آراء الفقهاء، وبهذا ينتقل الطالب إلى مرحلة متقدمة في البحث العلميّ والتحصيل الذاتي، وعليه أن يبدي رأيه فيما قرأ باعتماده على أمهات المصنّفات الفقهيّة مثل كتاب (المقنعة)، و(أصول الفقه)، و(الأركان في دعائم الدين) وغيرها من الكتب للشيخ المفيد (ت413هـ)، وكتاب (النهاية)، و(عدّة الأصول) للشيخ الطوسي(ت460هـ)، وفي التفسير له كتاب (التبيان في تفسير القرآن)، وكتاب (المنجي من الظلال في الحرام والحلال) للحسن بن عقيل الحلّي (ت557هـ)، وكتاب (الحاوي لتحرير الفتاوي) و(السرائر) لابن إدريس الحلّي (ت598هـ)، وكتاب (شرائع الإسلام) للمحقق الحلّي (ت676هـ)، وكتاب (المختلف) و(التذكرة) و(منتهى الطالب في تحقيق المذهب) و(القواعد) و(التحرير) و(النهاية) وغيرها للعلامة الحلّي ابن المطهر(ت726هـ)، ومن كتب الحديث كتاب (الكافي) للشيخ الكليني(ت328هـ)، و(الدلائل) للطبري(ت310هـ)، و(الدلائل) لعبد الله الحميريّ(ت350هـ)، وكتاب (من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق (ت381هـ)، إضافة إلى كتب الحديث من باقي الفرق، وكتب الرجال، وعلم الكلام، والفلسفة، واللّغة، والعلوم والمصنّفات المختلفة ككتب الفرق، والتاريخ، والطب، والفلك، والبلدان، وغيرها. وكانت حلقات الدرس تعقد في المساجد مثل (المسجد الجامع) و(مشهد الشمس)، أو المنازل مثل منزل أبي البقاء هبة الله بن نما الحلّي(كان حيًا سنة 565هـ)، ومحمد بن إدريس الحلّي (ت598هـ)، ومنزل جمال الدين أبي الفضل أحمد بن المهنا(ت682هـ)، أو المقامات مثل مقام صاحب الزمان (عليه السلام)، والحوانيت مثل حانوت ابن الكال (ت579هـ) يقري فيه طلابه، ومجلس نجيب الدين يحيى بن أحمد بن يحيى الهذلي(ت689هـ) إلى جوار داره، وغيرها من الأماكن المتفق عليها، وتبدأ الدراسة صباحًا وتستمر حتى صلاة الظهر، ويعرض فيها الأستاذ درسه من مختلف المصادر الفقهيّة، ويدور النقاش وتتداول الآراء فيها، ثم يعود الطالب ليراجع ما تلقاه عن أستاذه، ويبدي رأيه باستخدام الدليل العلميّ، ولم يكن الأساتذة مقتصرين على مادة بعينها بل يتصدّون لمباحث عديدة، حسب العلوم التي يتقنونها، وكانت مظاهر التواضع والاحترام والتسامح تسود الأجواء الدراسيّة، وقد ينتقل الطالب من مدرس إلى آخر أو يدرس على أكثر من مدرس في وقت واحد، وحين يطمأن المدرس إلى اهليّة وكفاءة الطالب فإنّه يمنحه الإجازة، ويبيح له النقل والرواية عنه، وتتفاوت الإجازة من البسط، والاختصار، والتوسط، وهذا ما يبرز النضوج العلميّ والدّقة العلميّة للدرس الذي أنتج كبار فقهاء الاماميّة حتى فاقت المدارس الإسلاميّة الأخرى، وحتى أصبحت (أفخر بلاد العراق أحسنها) على قول ياقوت الحموي.

صور من الموضوع ...

يمكنم الاتصال بنا عبر الهواتف ادناه :
00964-7602320073
00964-7601179478
او مراسلتنا عبر البريد الألكتروني :
turathhi@gmail.com

للاستمرار، اكتب ناتج المعادلة الآتية :

للأسف، نتيجة خاطئة، حاول مجددا.


جاري التحميل ...

{{Msg.p}} ,
{{Msg.text}} .

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...