شخصيات
سامي سعيد الأحمد
مؤرخ كبير، وآثاري موسوعي، ونابغة علمية قل أن يجود الزمان بمثله، أعطى التاريخ كل حياته، فكان محققاً رصيناً، وموضوعياً صادقاً، وعلماً بارزاً من أعلام الحلة، واستاذاً في الفكر الإنساني القديم، ومربياً فاضلاً كبيراً. ولد الأستاذ الدكتور سامي سعيد الأحمد في مدينة الحلة سنة (1930م)، ودرس فيها، ونشأ في بيت يرعى الأدب والعلم، وعلى الرغم من أن أباه لم يكن اكاديميا إلا أنه كان مكبّاً على القراءة، ولديه جملة من الأصدقاء الأكاديميين المثقفين، وكان سامي يأنس بالجلوس معهم والاستماع إلى نقاشاتهم. تخرج الأحمد من الثانوية عام (1948م)، وتمنى أن يقبل في قسم التاريخ و الجغرافيا وكان له ذلك، قُبل بدار المعلمين العالية وكان يقرأ بنهم ولم تشبعه مناهجه الدراسية فراح يبحث عن مصادر خارجية ويلخصها ويعلق عليها وينتقدها حتى أمتلك ملكة رائعة أهلته ليكتب في التاريخ، وحالما تخرج عام (1952م) بدأ يكتب المقالات في التاريخ في جريدة (صوت الفرات)، ثم عمل بالتدريس حتى عام (1955م)، ولإشادة أساتذته الأفاضل أمثال الأستاذ طه باقر به انتدبته وزارة المعارف لإكمال دراسته في أمريكا . كان من منهاج الدراسة في جامعة شيكاغو كتابة البحوث العلمية بشكل مستمر، فكان يكتب على أنه مؤلف فيزين بحثه بالمصادر والهوامش والفهارس فانتبه إليه الأساتذة فقال له (إكناس كليب) مدرس اللغة الأكدية:" يا سامي انت مؤلف علمي منذ الآن"، وكان يناقش ويجادل اساتذته في نظرياتهم في التاريخ، وينقل لهم الدلائل إثر الدلائل، وكانوا يثنون على هذا الاجتهاد، ودرس واتقن الإنكليزية والالمانية والفرنسية، بالإضافة إلى دراسة اللغات القديمة كالسومرية والأكادية والآرامية واليونانية واللاتينية، كما درس آثار العراق ومصر وسوريا وفلسطين وآسيا الصغرى واليونان. أكمل الأحمد دراسة الماجستير والدكتوراه في عام (1962م) من جامعة ميتشيغان بدرجة شرف، وكانت رسالته في الدكتوراه عن موضوع لم يتطرق إليه أحد، وهو (جنوب بلاد ما بين النهرين في عهد الملك آشور بانيبال)، وتوصل إلى نتائج لم تتيسر لباحث من قبل، ولذلك عرضت عليه دار (موتون) في لاهاي بهولندا طبع رسالته ونشرها، فاستشار استاذه (كرونبام) فقال له: "إن هذا العرض تكريم واعتراف بنتيجة بحثك فامض فسيكون لك سمعة عالمية"، ومنح لقب استاذ مساعد في جامعة (دنفر) في ولاية كولورادو، ودرّس فيها مدة خمس سنوات، وتخرج على يديه أساتذة كبار، واخذ يحاضر في جامعات مختلفة ونواد ثقافية، وذاع صيته، واخذت مؤلفاته تثير الجدل والنقاش، وراح يدعى لحوارات تلفازية واستشارات تاريخية، ودعته مؤسسة (ناشيونال جيوكرافك) للكتابة في مجلتها، وهذا شرف لا يناله إلا القلة من العلماء، بل طلب منه صديقه المؤرخ العالمي المعروف (ارنولد توينبي) كتابة موضوعين عن (الشبك) و(الإيزيدية) قائلا له: "إنه لن يستطيع أن يجد أحسن منه في الكتابة في هذا الموضوع، كما طلبت دار (فيلد) في فلوريدا- وهي واحدة من اشهر دور النشر في العالم - منه نشر مؤلفاته وفعلت ذلك. عاد الأحمد إلى بغداد في عام (1967م) ليغدق عليها بما ناله من علم، وبدأ رحلته التدريسية في جامعة بغداد لأكثر من 30 عاما، وكان كثيرا ما ينتقد طريقة التحقيق النابع من العاطفة، البعيد من الموضوعية، خاصة في التاريخ الإسلامي، وكان غالبا ما يوصي بأن النقد يجب أن يستند على حقائق علمية. إن تراث الأستاذ الدكتور سامي مصدر مهم في التاريخ العالمي، فقد كتب في الحضارات القديمة، وكان لا يكتفي بالكتابة بل يحقق في كل شيء، فعندما أراد أن يكتب عن (الشبك والإيزيدية) ذهب إليهم وسكن هناك عدة أيام، وهو من أوائل المؤرخين الذين قدموا آراء جديدة عن طبيعة الحضارات التي نشأت في الهلال الخصيب ومصر، كالحضارات السومرية والأكدية والاشورية والمصرية والاوكارتية والكنعانية، وهو من أوائل المؤرخين الذين اشاروا إلى جهود الإنسان في بلاد الرافدين وتأملاته الروحية، التي سمت إلى معرفة الخالق الأوحد، وأن أرض شنعار (بابل) وأنهارها هي (جنة عدن) المستمدة اسمها من (ادينو الاكدية) التي تحدثت عنها الآداب العراقية القديمة. خلّف الأحمد أكثر من ثلاثين كتاباً مطبوعاً بالعربية والإنكليزية، منها (جنوب العراق في زمن الملك آشور بانيبال)، و(اليزيدية)، و(تاريخ الخليج العربي في أقدم الازمنة)، و(اللغات الجزرية)، و(الإسلام نظريا وعمليا)، و(الأصول الأولى لأفكار الشر والشيطان)، و(السومريون وتراثهم الحضاري)، و(تاريخ فلسطين القديم)، و(تاريخ العراق القديم)، و(آثار بلاد الرافدين)، و (ملحمة كلكامش)، و(تاريخ الشرق القديم)، و(المعتقدات الدينية في العراق القديم)، و(تاريخ الرومان)، كما شارك في عدد من الموسوعات المهمة منها: (موسوعة حضارة العراق)، و(موسوعة العراق في موكب الحضارة)، و(موسوعة المدينة والمدنية في العراق)، كما ترجم الجزء الخاص بالعراق من الموسوعة البريطانية الشهيرة (Cambridge Ancient History)، إضافة إلى عدد كبير من البحوث الأكاديمية الرصينة في المجلات العراقية، والعربية، والعالمية . توفي الأستاذ الدكتور صاحب الخلق الرفيع والعلم الغزير سامي سعيد الأحمد عام (2006م) بعد أن عاش (76) عاماً، مخلفا تراثاً رائعاً من الأبحاث والمؤلفات، وقد اتخذه كثيراً من طلبة الدراسات العليا مثالاً لهم في بحوثهم وتوجيهاتهم العلمية.