تاريخ البصرة

مدينةُ القُرنة في كتاباتِ الرحَّالةِ الأجانبِ – القِسم الأول

مدينةُ القُرنة في كتاباتِ الرحَّالةِ الأجانبِ – القِسم الأول

مّا لاشكّ فيه أنَّ أدب الرحّلات والأسفار من أمتع فصول الأدب والتأريخ، وأكثر مؤلفاته رواجاً، وأحسنها قَبولا لدى القُرّاء؛ لما لَها من أثرٍ في نَفْس القارئ إذ تجعله يَتصوّر أنّه يعيش تلك الحياة، ويَستمتعُ كثيراً بقراءتها، ويَهوى مُتابعة مَسير أولئك الرحّالة، وتتبّع تنقّلاتهم، والتعرّف على انطباعاتهم عن المناطق والمُدن والقُرى التي مرّوا بها، وكتبُوا عنها بأحوالها المختلفة. وسنُحاول في هذا القِسم من مَقالتنا أنْ نُسلّط الضَوء على مُشاهدات الرحّالة الأجانب لمدينة القُرنة ذات التأريخ العَريق، والطبيعة المُميّزة، والموقع الجُغرافيّ المُهمّ الذي جَعلها مَحطّة رئيسة تتوقّف فيها السُفن التي تَحمل الرحّالة وغيرهم من المُسافرين إلى بَغداد وبقيَّة مناطق العِراق أو القادمين مِنها، أو القادمين مِن الخليج العربيّ، أو المُسافرين عن طريقه إلى مناطق أُخَر. وممّا يَجدر ذِكره هُنا أنَّ الاهتمام بتأريخ تلك المُدن مُهمٌ جداً للتعرّف على الإرث الحضاري والثقافي لمُدننا؛ لِما له من دَورٍ كبيرٍ في تَنشئة جِيل قويّ مُحبًّ لوطنه وتَأريخه وتُراثه، إذ إنَّ الفَلسفات التربوية تُؤكد على أنَّ مِن الأُسس التربويّة الصَّحيحة هو إبراز الدَور الحضاريّ والتاريخيّ لأيّ شعبٍ أو مدينةٍ أو دَولةٍ؛ لما له مِن أثرٍ في تَحفيز الجِيل والنشئ على الانتفاع مِن ذلك التأريخ. القُرنة هذه المدينة الجَميلة التي عَدّها البعض جَنّة عَدنٍ؛ للطبيعة التي تَمتاز بها، ومع هذا لم نرَ كتابات تاريخية مُنفردة تُعنى بإبراز تأريخ هذه المدينة المِعطاء؛ لذا حاولنا في هذه المَقالة إبرازها مِن خلال وَصْف الرحّالة الأجانب الذين مرّوا بِها مُنذُ مِئات السِنين، الأمر الذي يؤكّد عَراقتها وتأريخها الطويل المُمتد إلى جُذورٍ عَميقة. ومن أشهر الرحّالة الأجانب الذين زاروا مدينة القُرنة (كاسبارو بالبيِ ) الإيطالي الجنسية الذي كان في طَريقه إلى الهِند فَوصل إلى العِراق عام 1580 عن طريق البصرة . ويصف (بالبي) الوضع الاقتصادي، وعمل السُكّان في القُرنة بقوله: ((يَستخدم السُكّان آلة لطيفة يَصطادون بها كميّات وافرة من السَّمك وما هذه الواسطة سوى قصبة مُحددة الرأس لا غِير)) ويَقصد بتلك الآلة (الفَالة)، ثُمَّ يُضيف (بالبي) ((يّعيش هؤلاء الناس حَياةً هانئة لكثرة ما عِنَّدهم من الحِنطة، والجدير بالذِكر أنَّ حبّة الحِنطة هُنا كبيرة جداً تَفوق الحجم الاعتيادي، ويَرجع سَبب ذلك إلى أنّ حقولهم فَسيحة وواسعة جدا؛ لذا بإمكانهم الزرع في حقل ارتاح مُدّةً طَويلة من الحَصاد الأخير، وقد تَطول هذه المُدة إلى خمسة عشر أو عِشرين شهرا، ففي مثل هذه الحالة يُعطي مثل هذا الحقل ثَمرا جيَّدا، لهذا السَبب نَرى أنّ تلك المناطق عامرة بالسُكّان والدُّور)). يَتَّضح من خِلال ما ذكره (بالبي) عن القُرنة الوضعُ الاقتصاديُّ الجَيّدُ للمدينة وثَرائها بأنواع الأسماك، والتربة الجيّدة الصالحة للزراعة، وهذا يعني أنّ المنطقة كانت مُصدّرة للأسماك والحُبوب؛ لأنّ ناتجهم كثير، ويَفيض عن الاستهلاك المَحلي لسُكَّان القُرنة، إذ كما معلوم أن هُناك مَناطقَ ومُدن كانت مُحيطة بالقُرنة أو قَريبة منها كانت تتعامل معها تِجاريا وتتبادل معها السلع والبضائع المُختلفة، ويُشير هذا الأمر إلى أنّ مدينة القُرنة كانت مُتفوقة اقتصادياً على غيرها من المُدن والمَناطق بِحكم الطبيعة التي كانت تتميز بِها، ولاسيِّما وجود الأهوار والأراضي الزِراعيّة الخَصبة التي تُعدُّ من المُقوّمات الأساسيّة لِنجاح الزراعة في أيِّ مكان بالعالم. أمّا بالنسبة للرحّالة الآخر الذي زار العِراق ومَرَّ بِمدينة القُرنة فهو الإيطالي الأب (سبيستياني) في عام 1656م وعند وصوله إلى القُرنة وصفها بقوله: ((القُرنة يلتقي فيها دجلة بالفرات بعد أن يُخلّفا بُحيرات – أهوار – واسعة على طريقهما، تُدفع فيها ضريبة المكوس عن البضائع التي تَحملها القوارب، وعندما اتجه القُبطان إلى المكان الذي تُدفع فيه الضريبة هبَّت رياح قوية مزَّقت الشِراع من أعلاه إلى أسفله، ودفعتنا بعيداً، فجاء رجالُ الكُمرك إلى هناك ليستوفوا الرسوم، ولم يُلقوا نَظرة على أمتعتنا فقد اعتبرونا دراويش فرنجيين – وهذه عادة الكمارك العُثمانية في مُعاملتها لرجال الدين)). يُضيف (سبيستياني) بالقول: ((يُحيط بالقُرنة أسوارٌ شُيّدتْ باعتناءٍ بالغ ،لكنَّها ليستْ ذات شأنٍ لأنّها مِن طينٍ، والقُرنة بلدةٌ كبيرةٌ على ما تَظهر, وموقعُها مهمٌ نَظراً لكونها مُشيّدة أمام هذا النّهر الواسع العظيم وإلى يَسارها فرعٌ كبيرٌ مِن دجلة، إذ يَلتقي هناك مِن جديد)). ويُعْطِي (سبيستياني) انطباعاته عن السُكّان فيقول: ((إنَّهم يؤدُّون الصلاة يَوميّاً مُنذ الصباح الباكر عند نُهوضِهم ثُمّ في مُنتصف النّهار وفي المَساء عنّد الغُروب وهُم يُصلّون بِسَجدات وركعات وانحناءات مُتكرّرة ولم يتأخّروا عن مَوعد أداء الصلاة، فكانوا يَنزلون عن الخيّل ويَتركون كُلَّ عَملٍ آخر من أجّل القِيام بالصّلاة وللمُسلمين أدعيةٌ كثيرةٌ وأورادٌ يُردّدونها دائماً, ونَحنُ في المركب يَطلبون مِن الله السَفر المَيمون المُوفّق)). وهنا نَودُ أن نُبيّن أنَّ لمِهنة الرحّالة، وأعمالهم تأثيرٌ كبيرٌ على انطباعاتهم ومُشاهداتهم، إذ يُركّز كثيرا على الجانب الذي يَمتهنه؛ ولذا لاحظنا (سبيستياني) يَتحدّثُ بِهذه الطريقة عن السُكّان ولم يَغفل الجانب الديني لكونه رجل دِين. ومن الرحّالة الآخرين الذين زاروا القُرنة في القرن السابع عشر هو الفرنسي (تافرنييه) الذي قال عنها: ((القُرنة يَقترن فيها الفُرات بدجلة وفيها ثلاثُ قلاع، الأولى في مُلتقى النهرين وهي أحصنُها، فيها يُقيم ابن أمير البصرة الذي يَحكمها، والثانية في جانب كلدية, والثالثة في جانب بلاد العرب، ومع أنّه يُطالَب هناك بالرسوم الكُمركية بتمامها فَتُدفع فإنَّهم لا يُفتِّشون أيَّ شخصٍ)). وعن ثروات هذه المدينة يقول (تافرنييه): ((إنَّ هذه الأراضي من أحسن ما يَمتلكه السُلطان لاشتمالها على مَراعٍٍ واسعة، ومُروج نضيرة يُربَّى فيها عددٌ كبيرٌ من الحيوانات خاصّة الأفراس والجواميس، ومدَّة حَمل الجاموس اثنا عشر شهرا وهي تدرُّ حليباً وافراً جدّاً حتّى إنّ بعضها يدرُ اثنين وعشرين بنتاً – البنت يُساوي ثُمن الغالون – في اليوم وتُستخلص منّه مَقادير وافية من الدهن)). كما إنَّ (تافرنييه) بيّن في رحلته مِقدار الضرائب التي تُستوفى في القُرنة إذ يقول: ((يُدفع عن كلِّ رأس جاموس ذَكرا كان أم أُنثى قرشا وربع قرش في السنة، وعلى كلِّ فرس يُدفع قِرشان، وعلى كلّ شاة عشر سوّات – السو نقد فرنسي يساوي 1/20 من الفرنك الفرنسي أي ما يعادل خمس سنتات)). فضلاً عن ذلك فإن (تافرنييه) بيّن أموراً أُخرى بالقول: ((إنَّه لا يُمكن المُرور من قلّعة القُرنة المزودة بمدفع دُون إذنٍ، والتقينا بابن أمير البصرة الذي كان حاكم القلعة، وهنا يُسجّل حِساب الكمارك، ومع أنّ رجال الكمارك يُمعنون في تحري السُفن فإنَّهم كثيرو اللُّطف، فلا يُفتِّشون أي شخص، وعند قيامهم بهذا الواجب لا يهملون التفّتيش عن البضائع المخبّأة بين الواح السَفينة أو المُغطّاة بالحَطب والعِيدان، ولموظّفي الكُمرك مثقب طويل يجسُّون به جوانب السفينة لاكتشاف ما قد يكون فيها من بِضاعة مُخبّأة، إنَّ البِضاعة تُسجَّل في القُرنة ولكنَّ رُسوم البصرة تُدفع دائما في البصرة بحسب القائمة المُعطاة من قَلعة القُرنة)). خِتاماً نَودُّ أن نُشير إلى أنّنا حاولنا أن نُسلِّط الضَوء على الكِتابات التاريخية عن مدينة القُرنة لنتعرّف على أهميّة هذه المدينة وغِناها من خِلال ما ذكره الرحّالة الذين مرّوا بها، وهنا لابد من القول أيضاً إنّ تلك الرَحلات لم تَقتصر على هؤلاء الرَحّالة الذين ذَكرناهم في هذا المَقال بل إنَّ رحّالة آخرين قد زَاروا العِراق وتَوقّفوا بمدينة القُرنة من أمثال (فردريجي) (ونيبور)، و(أبو طالب خان الهندي)، و(جاكسون)، وغيرهم، وسوف نُكمل ما ذكره أولئك الرحّالة في القسم الثاني من هذا المقال بإذن الله تعالى. أ.م.د. عِماد جاسم الموسويّ

صور من الموضوع ...

نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.

يمكنم الاتصال بنا عبر الهواتف ادناه :
00964-7800816579
00964-7800816579
او مراسلتنا عبر البريد الألكتروني :
turathofbasrah@gmail.com

للاستمرار، اكتب ناتج المعادلة الآتية :

للأسف، نتيجة خاطئة، حاول مجددا.


جاري التحميل ...

{{Msg.p}} ,
{{Msg.text}} .

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...