تاريخ البصرة

البصرة نقطة التلاقي الحضاري بين العراق والهند

البصرة نقطة التلاقي الحضاري بين العراق والهند

يتصوَّر بعض الدارسين أنَّ علاقة العرب المسلمين بالهند بدأتْ بعد غزو السلطان محمد الغزنوي لها في نهايات القرن الرابع الهجري، لكنَّ حقيقة الأمر أنَّ العلاقات بين الطرفين كانتْ قد ابتُنيتْ قبل هذا التأريخ بمئات السنين، فقد انبثقتْ العلاقة الأولى بين جزيرة العرب والهند نتيجة التبادل التجاري الحاصل بينهما عبر الرحلات التجارية البحرية المستمرة التي كانتْ بين الطرفين، بحكم الموقع الجغرافي لكليهما إذ لا يفصل بينهما سوى البحر، وبطبيعة الحال فإنَّ الدول الساحلية تُشكِّل قواعد تجارية مهمَّة تمثل محطات وملتقى لسرب القوافل التجارية. وقد أشار تأريخ الملاحة العربية إلى وجود صلات تجارية مبكِّرة بين سواحل شبه الجزيرة العربية وبلدان الشرق الأقصى سبقتْ ظهور الإسلام، إذ جاب الحميريون البحار المحيطة بشبه الجزيرة العربية منذ القرن الأول الميلادي بما في ذلك المحيط الهندي والساحل الشرقي لإفريقيا، وكان من بين الطرق التجارية العديدة التي تربط الوجهتين الطريق الذي يمر عبر الخليج العربي. ومن البلدان العربية المُطلَّة على الخليج العربي نخصُّ بالذكر العراق الذي كان له قَصب السبق في توطيد العلاقات مع الهند، فقد أظهرتْ المُخلَّفات الأثرية المكتشفة في الهند عمق تلك العلاقات بين البلدين، وبيَّنتْ تأثير العراق الكبير على الثقافة الهندية عبر ما تمَّ اكتشافه من نماذج للكتابات الهندية القديمة في جنوب الهند منقوشة على الصخور، فهي تُقرأ من اليمين إلى اليسار فتشبه بذلك الكتابات الساميَّة المستعملة في وادي الرافدين، وتُسمَّى هذه النقوش(البالية الأرية)، وهي مُختلفة تماماً عن النقوش المُكتشفة في شمال الهند التي تُقرأ من اليسار إلى اليمين وتُسمَّى(البالية الهندية)، والمعلوم أنَّ جميع الكتابات الهندية تبدأ من اليسار إلى اليمين. ومن جهة أخرى أثبتَ بعض الباحثين أنَّ العديد من الكلمات المتداولة قديماً عند العرب هي في الأصل كلمات أُخذتْ من اللغة السنسكريتية الهندية، وكذلك العكس، إلى وقتنا الحالي، ، إذ يلاحظ أنَّ بعض المواطنين الهنود يتداولون بعض المفردات العربية ويعدُّونها جزءاً من لغتهم، واكتشفتُ أنَّ أصل بعض المفردات التي مازلنا نستعملها في العراق ولاسيّما في مدينتي البصرة يرجع إلى اللغة الهندية، وهي كثيرة لا يسع المجال لذكرها. وقد جمع الهند بالعراق العديد من المجالات العلمية، ومنها الطب، إذ يذكر ابن أبي أصيبعة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) أنَّ مجموعة من الأطباء الهنود قَدِموا العراق لغرض معالجة المرضى والاستشارة والتدريس، ومنهم: الطبيب (منكه) الذي كان عالماً بالطب ومعروفاً بحسن المعالجة، و(صالح بن بهله) الذي عُدَّ من أمهر الأطباء الهنود الموجودين في بغداد في أيَّام حكم هارون العباسي. وقد تُرجم العديد من الكتب الهندية من اللغة السنسكريتية إلى اللغة العربية في مجالات علميَّة أُخرى، كعلم الحساب، وعلم النجوم والفلك وغيرها, وكان كل هذا التداخل في الثقافات بين العراق والهند - في الأساس- حصيلة الرحلات التجارية التي قام بها التجَّار العراقيون والهنود طوال الحقب الزمنية التي مرَّتْ، وممَّا تقدم بيانه فإنَّه لابد من وجود منفذ بحري في العراق يصلُح أنْ يكون محطَّة للتبادل التجاري، ومن هذه النقطة بالذات يُمكن طرح السؤال الآتي: هل كان في العراق منفذ بحري يتمتَّع بصفات تُؤهِّله أن يُؤدي دور الوسيط بين البلدين؟ وجواباً على ما تقدم السؤال عنه، نقول: نعم، كان في العراق وتحديداً في مدينة البصرة ميناء الأُبلَّة، الذي يُعدُّ من أشهر الموانئ وأكبرها في منطقة الخليج العربي قديماً، إذ تأتي أهميَّته من كونه يقع على سواحل مدينة البصرة الواقعة في الخط التجاري البحري الذي يربط الهند بالخليج العربي، أمّا بالنسبة لتاريخ الأُبُلة الملاحي فإنَّه يرجع إلى عهد الإسكندر المقدوني، ففي المائة الرابعة قبل الميلاد وصفها البحَّار "تيارجس" بأنَّها مستودع تجارات الخليج، وقد أدَّى بالفعل هذا الميناء دور الوسيط في التجارة البحرية بين العراق والهند، فقد كانتْ الرحلات التجارية نشطة جداً بين الهند والأبلة إذ وصف لنا سليمان التاجر (237هـ- 851م) – أول تاجر عربي وصلتنا أخبار رحلته عن طريق كتاب ألَّفه أبو زيد حسن السيرافي – تلك الطرق التجارية البحرية التي تستخدمها السفن التجارية، قائلاً: (وأنَّ المتاع يُحمل من البصرة وعُمان وغيرها إلى سيراف، فإذا عبئ المتاع بسيراف استعذبوا منها الماء، وخطفوا (وهذه لفظة يستعملها أهل البحر يعني يقلعون) إلى موضع يُقال له مسقط، وهو آخر عُمان، ... فيُستعذب الماء من مسقط من بئر بها، ... وتخطف المراكب منها إلى بلاد الهند، وتقصد كولم ملي (أحد موانئ الهند آنذاك) ). وقد بيّن ابن خُرداذُبِه أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله (250هـ /864م) -الذي شغل منصب صاحب البريد في عهد المعتمد العباسي- المسافات ووصف الطرق بين بغداد ومختلف البلدان، في كتابه (الممالك والمسالك) الذي ضمَّنه تفصيلات الطرق التجارية البرية والبحرية إلى الهند، مبيّناً لنا تفاصيل الطرق الهندية من ساحل البصرة ومسافاتها، فقد ذكر تلك المسافات بالأيام وأحياناً بالفراسخ، وذكر -أيضاً- قائمة بالمحاصيل الزراعية والبضائع التجارية الهندية التي كانتْ تُحمل إلى بلاد العرب والعراق خاصة وهي: "الأعواد، والصندلان، والكافور، والجوزبوا، والقرنفل، والقافلة، والكبابة، والنارجيل، والثياب المتخذة من الحشيش، والثياب القطنية المخملة والفيلة، ومن (سرنديب) -سريلانكا - الياقوت وألوانه كلها، وأشباهه، والماس، والدرر، والبلور، والسنبادج الذي تُعالج (يصقل) به الجواهر، ومن مدينتي (ملي) و(سندان)، الفلفل، ومن مدينة (كله) الرصاص القلعي، ومن ناحية الجنوب البقم - نبات عُشْبِيٌّ طِبيٌّ من أَصل هندي -، ومن (السند) القُسْط - عُودٌ يُجعَلُ في البخور والدواء - والقنا والخيزران". ومن خلال حقب زمنية متلاحقة من العلاقات بين البلدين شَيَّد الهنود - في مدينة البصرة- بعض المعالم التي كان لهم فيها بصمة معمارية، ومنها (جامع الفقير) -أحد المعالم الدينية الشاخصة في مدينة البصرة- الذي بناه الحاج محمد علي الفقير وهو أحد تجار الهند الذين قَدِموا البصرة, وكان هذا المسجد يُمثِّل محطَّة لاستراحة بعض التجَّار والوافدين من بلاد الهند القاصدين زيارة العتبات المقدَّسة. وفي عشرينيات القرن الماضي ونتيجة لكثرة البضائع التي كان يأتي بها التجار الهنود من بلدهم إلى البصرة أُنشأ سوقٌ في وسط البصرة سُمِّي بـ (سوق الهنود) أدار محلَّاته الهنود أنفسهم، وجَمع أغلب البضائع الهندية، ومع مرور الزمن اشتدتْ أواصر العلاقات بين الهنود وأبناء المدينة، فتصاهروا معهم وأصبحتْ لهم عائلات معروفة إلى وقتنا الحالي، وعليه فإنَّ الدور الريادي الذي أدَّته البصرة عبر مينائها (ميناء الأبلة) هو ربط ثقافة حضارتين مختلفتين هما حضارة الهند والسند وحضارة وادي الرافدين، ومنه بانتْ الجذور التأريخية المتأصلة في العلاقات بشتى صنوفها بين الهند والبصرة. إعداد: هاني نمر

صور من الموضوع ...

نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.

يمكنم الاتصال بنا عبر الهواتف ادناه :
00964-7800816579
00964-7800816579
او مراسلتنا عبر البريد الألكتروني :
turathofbasrah@gmail.com

للاستمرار، اكتب ناتج المعادلة الآتية :

للأسف، نتيجة خاطئة، حاول مجددا.


جاري التحميل ...

{{Msg.p}} ,
{{Msg.text}} .

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...