تاريخ البصرة
ثورةُ الزِّنج في البصرة بينَ المبالغةِ والانصاف

مرّت البصرة منذ تأسيسها سنة(14هـ/635م) بالكثير من الأحداث السياسية في تاريخها الطويل، ومن مجمل هذه الأحداث قيام الثورات والانتفاضات في المدينة ولأسباب شتى بعضها أجتماعية وأخرى سياسية أو أقتصادية وما شاكل ذلك من الأسباب. ومن الثورات التي نريد تسليط الضوء عليها بإيجاز الثورة المعروفة بثورة صاحب الزّنج التي دارت أغلب أحداثها في البصرة لمدة تقارب الخمسة عشر سنة ما بين سنتي(255- 270هـ/868- 883م). وأما قائد الثورة فهو عليّ بن محمد المعروف بصاحب الزِّنج، ولأن المادّة البشرية الأساسية للثورة كانت مؤلفة من العبيد الزّنج الذين كانوا يعيشون في ظروف قاسية ويعملون في استصلاح الأراضي الزراعية فقد سُمّيت الثورة باسمهم على الرغم من أن قيادتها لم تكن من الزّنج، كما شارك فيها أفراد وجماعات من القبائل العربية. تجمع المصادر التاريخية على أنّ صاحب الزّنج علي بن محمّد لم يكن زنجياً، ولكنّهم يختلفون في أصله ونسبه، فمنهم من قال أنه عربي من قبيلة عبد القيس ومنهم من عده فارسيّاً نظراً لولادته في قرية(وَرْزَنين) الواقعة في مدينة الري سابقاً قرب مدينة طهران الحديثة، هذا وقد ادّعى عليّ بن محمّد النسب العلويّ ليضفي على حركته الغطاءَ الدينيّ ويكسب جمهور الناس المتعاطف مع أهل البيت(عليهم السلام)، ولكنه جاهر ببعض مبادئ الخوارج، والغرض من رفع شعار النسب العلوي والمناداة ببعض مبادئ الخوارج هو تمشية أمور الزنج، وأيضاً كان لصاحب الزنج مأرب سياسية حاول أن يستغل من خلال هذه الشعارات الوصول إلى ما يبتغيه. إنَّ الإطار الزمني لثورة الزِّنج في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وكان طابعها العام للقيام أجتماعياً ضد ملاَّكي الأراضي الزراعية، ثم سرعان ما تحولت إلى مواجهات مسلحة مع جيوش العباسيين، وهي والحالة هذه وقعت في العصر العبّاسي الثاني وبنحو أدق في فترة حكم المهتدي والمعتمد العباسيّين، وأمّا مكانيّاً فقد جرت معاركها الكبرى في البصرة ثم توسعت إلى مناطق أخرى مثل الأهواز وواسط وغيرها وكانت القيادة بيد أخو المعتمد ووليّ عهده أبي أحمد الموفَّق ومن الجانب الآخر عليّ بن محمّد صاحب الزنج والقادة الذين معه، وفي الإطار السّياسي تزامنت ثورة الزنج مع عدّة ثورات قامت ضد الدولة العباسية من أهمها حركة الصفَّاريين في بلاد فارس بقيادة يعقوب الصفَّار، وانتفاضات العلويين في الكوفة والريّ وغيرهما، وتمرد مُساور الخارجي في الموصل وخروج بعض الثوار الأكراد في فارس والأهواز، وتزامنت أيضاً مع بدايات ثورة القرامطة في سواد الكوفة، علماً أنّ صاحب الزنج لم يُرد غالباً أن يعقد أي تحالف مع تلك الحركات المناوئة للدولة العباسية وهو ما يحسب عليه كخطأ استراتيجي لم يحسب أنه يحتاج إليه في مثل هكذا حركات. وقد تناول المؤرخون والكتّاب المحدّثون ثورة صاحب الزنج بمنظارين مختلفين الأول معارض لقيام هذه الثورة ومندداً بها وبأفعالها التي أرتكبها صاحب الزنج وعدوها ثورة معادية خارجة على السلطة الشرعية والنظام العام مارقة من الدين القويم وسلوك تخريبي وإجرامي أضرَّ بالدولة وبمصالح الناس. وأما الثاني فقد أعتبر تلك الثورة علامة من العلامات المضيئة في تاريخ الشعوب الإسلامية وثورة أجتماعية تمتلك مسوّغاتها المشروعة. ومن جانب أخر فأن رواية الطبري في تاريخه هي الرواية الوافية عن ثورة الزَّنج وبقية الروايات عالةٌ عليها، وهي بطبيعة الحال معادية للزَّنج وتعبّر إلى حدٍّ بعيد عن موقف السلطات الرّسمية من تلك الثورة. وبمناسبة الحديث عن ثورة الزّنج بودّنا أن نشير إلى تنبؤ الإمام علي(عليه السلام) بوقوع ثورة الزنج مخاطباً الأحنف بن قيس: ((يا أحنف، كأني به، وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب، ولا قعقعة لجم، ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام. ثم قال عليه السلام: ويل لسكككم العامرة، والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور، وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفتقد غائبهم)) 1. أن كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) يوضح الحالة الاجتماعية والمعيشية في البصرة في تلك الفترة التي كانت متفاوتة وتتميز بظهور فئة ملاكي الأراضي الزراعية والذين كان يعمل لديهم أكثر الزنج في ظروف صعبة جداً، ويبين لنا أيضاً الحالة الطبقية السائدة في المجتمع والتي ثار الزنج ضدها، وكذلك يوضح كلام الإمام(عليه السلام) الآثار السلبية التي ستلحق بالبصرة من جراء قيام ثورة الزنج. ومن الجدير بالذكر هنا أن أحد أصحاب الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) الذي كان معاصراً لثورة صاحب الزنج سأله عنه فأجابه أن صاحب الزنج ليس منا أهل البيت، ومن الأمور الأخرى التي حاول علي بن محمد استغلال مشاعر الناس وكسب تأييدهم لثورته ادعائه المهدوية ونسبة الأمور الخارقة لنفسه من قبيل نصرة الملائكة له وقراءته أيات من القرآن لم يكن يحفظها وغيرها من الأمور الأخرى، ولكن هذا القائد أخذ بعد قيامه بالثورة وبنائه مدينته(المختارة) ينال من الإمام علي(عليه السلام) في خطبه وكلامه وقتل علي بن زيد العلوي صاحب الكوفة سنة(260هـ)، وقبل ببيع النساء من ولد الحسن والحسين(عليهما السلام) جواري للزنج. قام علي بن محمد بجمع أتباعه الزنج في البصرة سنة(255هـ)، وأخذ يخطب بهم ووعدهم ومناهم بالخلاص والتحرر من تبعية أسيادهم ملاكي الأراضي وقد حلف لهم بالأيمان المغلظة أنه سيكون معهم ولن يخذلهم، ثم استحل البصرة سنة(257هـ) وأخذ هو وجيشه يحرقون وينهبون ويقتلون الناس طمعاً بالأموال، وفي أحدى المرات قاموا بأحراق جامع البصرة وقتلوا من فيه، ولكن المصادر التي تناولت هذه الثورة تبالغ في وصف أعداد الناس المقتولين في البصرة وحدها فضلاً عن المناطق الأخرى وعن كيفية قتلهم من خلال وصف جريان الدماء في سكك البصرة وأروقتها من كثرتها. وفي الختام يمكننا القول إنَّ مرت ثورة الزِّنج مرّت بمرحلتين في سيرها المرحلة الأولى هي مرحلة الصعود والصمود والثانية مرحلة الانحدار والتراجع فهي أشبه بحالة المد والجزر(إذا صح التعبير) وقد زرعت الهلع والخوف في نفوس أهالي البصرة وكذلك في القرى والمناطق القريبة منها، وجاء هذا إثر التهويل والتخويف الإعلامي الذي مارسه صاحب الزّنج وقادته؛ لغرض التوسع والسيطرة على أكثر المدن والمناطق الممتدة بين البصرة وبغداد، وقد تمكن الموفق من قتل صاحب الزِّنج والقضاء على ثورته في سنة 277هـ. 1- نهج البلاغة 2 / 9 . احمد وادي الموسوي .
صور من الموضوع ...
نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.