تاريخ البصرة

ثَورَة التوّابين، ومَوقفُ أَهل البَصْرَة منها

ثَورَة التوّابين، ومَوقفُ أَهل البَصْرَة منها

بَعدَ أنْ عاد ابنُ زياد ـ المنفِّذُ الرئيسُ لمَجزَرَة كربلاء ـ إلى الكوفةِ يحمل في كفَّيه وزرَ الجَريمَة النكراء دونَ أَن يرتَعشَ لهَولها، أو يدخلَ في روعِهِ الندمُ، كانَ مُستَعدّاً للسير في خدمة الحُكم الأمويّ بعيداً عن أيّ التزام. لذلك، نجدُه يدخلُ إلى المَدينة، التي كانت تمثّل القاعدةَ الجماهيريّةَ الأولى للحسين (عليه السلام), والأرضَ التي كان يَنبغي أن تشتعلَ فوقَها الثورةُ, متحدِّياً، جائراً، ضالّاً، ومُضِلاً غيرَه, وكأنّه ينتظرُ وسامَ البطولة. حتى وصلَ به الأمرُ ذروةَ التحدّي، حينَ وقفَ على مِنبرِ الكوفةِ في محاولةٍ منه لتسويغ ما جرى في كربلاء، متهجِّماً على الحسين (عليه السلام)، وواصفاً إيّاه بالكذّاب ابن الكذّاب, وكانت الكوفةُ حينئذٍ أشبهَ ببركانٍ عشيّةَ الانفجار؛ فهي أكثرُ من غيرها تتحسَّسُ ثقلَ الذنبِ، ومرارةِ الندم؛ بوصفها طَرَفاً مباشَرا،ً ومسؤولاً في قضيّة الحسين (عليه السلام)؛ فهي التي ألحَّت عليه بالخروج إلى أرض الثورة، التي تتعطّش إلى قائدِها المنتظَر, ثمّ تقاعسَ أكثرُها في أَحرَج الظروف عن الالتزام بما وعدت به، والوفاء بالعهد الذي قطعته على نفسها[1]. لذلك جاء في تاريخ الطبريّ: (لمّا قُتل الحسينُ بنُ عليّ، تلاقَت الشيعةُ بالتلاوُم والتندُّم, ورأت أنّها قد أخطأت خطأً كبيراً بدعائهم الحسين إلى النصرة وتركهم إجابته, ومقتله إلى جانبهم، ولم ينصروه. ورأوا أنّه لا يَغسلُ عارَهم والإثمَ عنهم في مَقتَله إلا بقَتل مَن قَتَله، أو القتل فيه)[2]. فأَخَذَ زعماءُ تلكَ الفئة المُخلصة, أنصار الثورة ـ وكان معظمهم من أصل يمانيٍّ ـ يجتمعون بعد مقتل الحسين (عليه السلام) مباشرةً في إطار من السرِّيّة التامّة، ويعقدون مناقشاتٍ أشبهَ ما تكونُ بالنقد الذاتيّ؛ لمحاسبة أنفسهم على التقصير الذي أظهروه إزاء الحسين (عليه السلام)، والتشاور على كيفيّة التكفير عن الذنب، وغسل العار الذي لَحقَ بهم نتيجةَ هذا التخاذُل[3]. سارت الحركةُ في اتّجاه عمليّ, محافِظةً على سرِّيّتها التامّة، التي استمرّت طولَ حُكم يزيدٍ الأوّلِ, وهي فترةٌ حاسمةٌ دأبَ فيها التوّابونَ بكلّ إمكاناتهم على تعبئة المقاتلين، وجمع الأسلحةِ، واستمالة الناس, واتّفقوا على أن يعقدوا لقاءاتٍ دوريّةً لتقويم النشاطات التي قاموا بها، والإنجازاتِ التي حقّقوها, ومن ثَم تحديد موعدٍ للخروجِ وإعلانِ الثورة. واستقرّ الرأيُ أخيراً على أنْ يكونَ التجمُّعُ في النُّخَيْلَةِ، في نهاية ربيع الآخر من سنة (65) للهجرة. كانت أولى الخطواتِ التنفيذيّةِ التي قام بها سُليمان, هي محاولة استقطاب زعماءِ الكوفةِ، واستمالةِ أكبرِ عددٍ من جماهيرها, والكتابةِ إلى رجالاتِ الحزبِ الشيعيِّ في البصرة والمدائن وسواهما من المدُن العراقيّة. وكانت هذه الاتصالاتُ تتضمّنُ المفاهيمَ العامّةَ للحركةِ ومنطلقاتِها, ثمّ الدعوة إلى المشاركة في مؤتمر النّخيلة المذكور[4]. فقد كتبَ أميرُ التوّابين إلى عامل المدائنِ, سعدِ بنِ حُذيفة بن اليَمان: (أمّا بعدُ, فإنّ الدنيا دارٌ قدْ أَدبرَ منها ما كان معروفاً, وأقبلَ منها ما كان مُنكراً، وأصبحَت قد تشنَّأت إلى ذوي الألباب، وأزمعَ بالتّرحال منها عبادُ الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى، بجزيل مثوبةٍ عندَ الله لا تفنى. إنّ أولياءَ الله من إخوانِكم وشيعةِ آلِ نبيّكم نظروا لأنفسهم في ما ابتلوا به من أمر ابنِ بنتِ نبيِّهم، الذي دُعي فأَجاب، ودَعا فَلَم يُجَب, وأرادَ الرجعةَ فحُبسَ، وسألَ الأمانَ، فمُنعَ، وتركَ الناسَ، فلم يتركوه، وَعَدَوا عَليه فقتلوه، ثمّ سَلَبوه وجرَّدوه ظلماً وعدواناً، وغرّةً بالله، وجهلاً... فلمّا نظروا إخوانكم، وتدبّروا عواقبَ ما استَقبلوا، رأوا أنْ قد خطئوا بخذلان الزكيّ وإسلامه، وتركِ مواساتِه، والنصرِ له، خطأ كبيراً ليس منه مخرجٌ ولا توبة دون قتلِ قاتِليه أو قتلِهم، حتّى تفنى على ذلك أرواحُهم، فقد جَدّ إخوانُكم، فجِدّوا، وأعدّوا، واستعدوا، وقد ضربنا لإخواننا أجلاً يوافونَنا إليه، ومَوطناً يَلقَوننا فيه، فأمّا الأجلُ، فغُرّة شَهر ربيعٍ الآخر سنة خمسٍ وستِّين. وأمّا الموطنُ الذي يلقونَنا فيه، فالنُّخيلة. أنتم الذين لم تزالوا لنا شيعةً وإخواناً، وإلا وقد رأينا أنْ ندعوَكم إلى هذا الأمر، الذي أراد الله به إخوانكم في ما يزعمون، ويُظهرونَ لنا أنّهم يتوبون، وأنّكم جُدَراءُ بتِطْلابِ الفَضلِ، والتماسِ الأجرِ، والتوبةِ إلى ربِّكم من الذنب، ولو كان في ذلكَ حزُّ الرِّقاب، وقتلُ الأولاد، واستيفاءُ الأموال، وهلاكُ العشائرِ، ما ضرّ أهلَ عذراءِ الذين قُتلوا ألا يكونوا اليوم أحياءً وهم عند ربِّهم يُرزقون، شهداء، قدْ لقوا اللهَ صابرينَ مُحتسبينَ، فأثابهم ثوابَ الصّابرين ـ يعني: حِجْراً وأصحابه ـ ، وما ضرّ إخوانكم المقتّلين صبراً، المصلّبين ظلماً، والممثولِ بهم، المُعتدى عليهم ألا يكونوا أحياءً مبتلين بخطاياكم، قد خيَر لهم، فلقوا ربَّهم، ووافاهم اللهُ إن شاء اللهُ أجرَهم، فاصبروا رحمَكم الله على البأساء والضرّاء وحين البأس، وتوبوا إلى الله عن قريب، فو اللهِ إنّكم لأحرِياءَ ألا يكونَ أحدٌ من إخوانكم صَبرَ على شَيء من البلاء إرادة ثوابه، إلا صبرتم التماسَ الأجرِ فيه على مِثله، ولا يُطلب رضاءَ الله طالبٌ بشيء من الأشياء ولو أنّه القتلُ إلا طلبتم رضاء الله به. إنَّ التقوى أفضلُ الزاد في الدنيا، وما سوى ذلك يبورُ ويَفنى، فلتَعزفْ عنها أنفسُكم، ولتكن رغبتُكم في دار عافيتكم، وجهاد عدوّ الله وعدوِّكم وعدوّ أهل بيت نبيّكم، حتّى تقدموا على الله تائبينَ راغبين. أحيانا الله وإيّاكم حياةً طيّبةً، وأجارَنا وإيّاكم من النار، وجعلَ منايانا قتلاً في سبيله، على يدي أبغض خلقه إليه، وأشدِّهم عداوةً له، إنّه القديرُ على ما يشاء، والصّانعُ لأوليائه في الأشياء، والسّلام عليكم)[5]. كان وقعُ هذا الكتاب مؤثِّراً جدّاً على شيعة المدائِن, خاصّة وأنَّ عدداً من الكوفيّين قد نزَحوا إليها, وهؤلاء ظهروا شديدي الحَماسِ للاستجابةِ الفوريّةِ لدَعوة التوّابين. وما لبثَ أنْ جاءَ الرّدُّ إيجابيّاً من عامل المدائن وشيعتها، والاستعداد الكامل للتحرّك في اليوم الموعود إلى النُّخيلة: (أمّا بعدُ, فقد قرأنا كتابَك، وفهمنا الذي دعوتَنا إليه من الأَمر الذي عليه رأيُ الملأ من إخوانك, فقدْ هُديتَ لحَظِّك، ويُسِّرتَ لرشدك, ونحنُ جادُّون, مجدُّون, معدّون, مُسرِجون، مُلجِمون، ننظرُ الأمرَ، ونستمعُ الداعي، فإذا جاء الصريخُ، أقبَلنا ولم نعرِّج إنْ شاء الله)[6]. وكان سليمان قد أرسل نسخة ثانية من كتابه إلى المثنّى بن مخربة العبديّ[7] في البصرة؛ لكسب تأييدهِ مع الشيعةِ هناك، فأجابوا جميعاً إلى دعوته. وقد جاء في ردِّ المثنّى: (قرأتُ كتابَك، وأقرأتُه على إخوانكَ، فحمدوا رأيك، واستجابوا لك, فنحنُ موافوك إنْ شاء اللهُ للأجل الذي ضَرَبت، وفي الموطن الذي ذَكرت، والسّلامُ عليك. وكتبَ في أَسفل كتابِه:[8] تبصَّر كأنِّي قدْ أتيتُك معلماً * على أتلعِ الهادي أجشّ هزيمِ طويلِ القِرى نَهدِ الشَّواء مقلّصٍ * مُلحٍّ على فأسِ اللِّجام أَزومِ بكلِّ فتىً لا يَملأ الرَّوعُ نحرَهُ * محسٍّ لعضِّ الحَربِ غيرِ سَؤومِ أَخي ثقةٍ ينوى الإلهَ بسَعيه *ضروبٍ بنصلِ السَّيفِ غيرِ أثيمِ وبذلك، أخذت دعوةُ التوّابين تتَّسعُ في أوساط الناقمين على الحكم الأمويّ، والمطالبين بدم الحُسين (ع), وتستجيبُ لها الجماهيرُ بحماسةٍ ملتهبةٍ، فكانَ يجيبُهم القومُ بعدَ القَوم, والنفرُ بعدَ النَفر من الشيعةِ وغيرِها. وجاء سعدُ بن حذيفةَ بن اليمانِ من المدائن حتّى انتهى إلى هيت[9]، فاستقبلته الأعرابُ، فأخبروه بما لقيّ النّاس، فانصرفَ، ولقيَ سعدَ المثنّى بن مخربة بصندوداء[10]، فأخبرَه الخبرَ، فأقاما في مَن معهما، حتّى قيل لهما: إنّ رفاعةَ قد أظلَّكما، فاستقبلوه، فبكى بعضُهم إلى بعض، وانصرفَ سعدُ بنُ حذيفة بمَن معه إلى المدائن، وانصرفَ أهلُ الكوفة إلى الكوفة، وانصرفَ ابنُ مخربة إلى البصرة[11]. عند قراءة النصِّ الوارد في الكتاب الذي أرسله ابنُ صُرد إلى البصرة, ونرى الاستجابةَ من أهلها, يتبيّنُ الدورُ الكبيرُ لهذه المدينةِ التي عُرفت بولائها، ولم تكن لمرّة واحدة بمعزلٍ عن المَعاركِ والثوراتِ التي حدثت في العالم الإسلاميّ, بعد أنْ كان لها دورٌ كبيرٌ في واقعة كَربَلاء؛ إذ ناصَرَت الحُسينَ (عليه السّلام), وأعطتْ ثلّةً من الشُّهداء لرسم تلكَ الملحمةِ الإلهيّةِ الخالدةِ، بقيادة أبيِّ الضّيم، الإمام الحسين بن عليٍّ (عليهما السّلام). [1] - إبراهيم بيضون, التوّابون, ص95. [2] - الطبريّ, تاريخ الطبري, ج4, ص426. [3] - إبراهيم بيضون, المصدر السابق, ص98. [4] - إبراهيم بيضون, المصدر نفسه, ص110. -[5] الأزديّ, أبو مخنف, مقتل الحسين (ع), ص252. [6]- الكوفيّ, أحمد بن أعثم, الفتوح,ج6, ص206. -[7] ثائرٌ من أشراف البصرة وشجعانها. كان من رجال عليّ بن أبي طالب، ولمّا قام سُليمان بن صُرد بالكوفة داعياً إلى ثأر (الحسين بن علي)، كتب إلى المثنّى (وهو في البصرة) يخبرُه بقيامه مع (التوّابين)، ويدعوه, فتجهّز المثنّى, ثمّ خرجَ من البصرة في ثلاثمائة من أهلها, ولحقَ بسليمان بن صُرد, والمعاركُ ناشبةٌ بينه وبين عبيد الله بن زياد (سنة 65هـ‍) في جهة (عين الوردة)، وهي (رأس عين) بالجزيرة الفراتية. ووجدَ أميرَ القوم (عبد الله بن سعد بن نفيل)، فقاتل المثنّى معه, وقتلَ عبد الله بن سعد, وتفرّق التوّابون, فعاد المثنّى إلى البصرة, ولمّا ثار (المختار الثقفي) في الكوفة للغاية نفسها (سنة 66)، جاءه المثنّى, وبايَعَه, فسيَّره المختارُ إلى البصرة يدعو بها إليه, فأجابَه رجالٌ من قَومه, ورحلَ إلى الكوفة، وقاتلَ مع المختار. وقتل المختار (سنة 67). لاحظ: الزركليّ, الأعلام, ج5, ص276. [8]- ابن الأثير, الكامل في التاريخ, ج4, ص262. -[9] وهي بلدة على الفرات، من نواحي بغداد، فوق الأنبار. لاحظ: الحَمَوي, معجم البلدان, ج5, ص421. [10]- صندوداء: ضُبطت في مُعجم ياقوت بفتح الصّاد وسكون النون وفتح الدال مع المدِّ. وهي بلدة في الطريق ما بين الشام والعراق. ج3, ص425. [11]- لاحظ: البلاذريّ, أنساب الأشراف, ج6, ص372.

صور من الموضوع ...

نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.

يمكنم الاتصال بنا عبر الهواتف ادناه :
00964-7800816579
00964-7800816579
او مراسلتنا عبر البريد الألكتروني :
turathofbasrah@gmail.com

للاستمرار، اكتب ناتج المعادلة الآتية :

للأسف، نتيجة خاطئة، حاول مجددا.


جاري التحميل ...

{{Msg.p}} ,
{{Msg.text}} .

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...