أعلام
أبو نؤاس البصري (الحسن بن هاني) سيرة وإبداع

شخصيةٌ جدلية كَثر الكلام عنها ونالت منها الأقلام سلباً وإيجاباً وهكذا هو الحال- دائماً- تجاه الشَّخصيات المؤثرة في أي مجتمع ، وفي أي مجال كان، فهناك من يرفعها إلى عنان السَّماء وهناك من يهبط بها إلى تخوم الأرض ، وقليل من المنصفين من يتبع الحالة الوسطية ، وهذا ما وقع به الحسن بن هاني المشهور بابي نؤاس أحد كبار أدباء البصرة بل العرب في العصر العبَّاسي. وكما اختلفت الأقلام في شخصية أبي نؤاس، كذلك اختلف المؤرِّخون في سَنة ولادتهِ، ووفاتهِ وعمرهِ، فقد ذَكر الأمين: " الحسن بن هانئ أبو علي الحكمي المعروف بأبي نواس الشاعر المشهور مولده ووفاته ومدة عمره ولد بالأهواز سنة 145 أو 140 أو 141 أو 136 أو 148 أو 149 على اختلاف الأقوال بالقرب من الجبل وقيل بكورة من كور خوزستان ولا تنافي بينهما، فالأهواز هي خوزستان . ...وقيل ولد بالبصرة والصحيح هو الأول . وتوفي ببغداد سنة 195 أو 196 أو 197 أو 198 أو 199 أو 200 وقال ابن منظور : قيل مات قبل دخول المأمون بغداد بثمان سنين انتهى والمأمون دخل بغداد سنة 202 فتكون وفاة أبي نواس سنة 194 وقال جامع ديوانه انه توفي آخر سنة 199 أو أول سنة 200 ودفن في مقابر الشونيزية على شاطئ نهر عيسى وعمره 59 سنة بناء على أن مولده 136 ووفاته 195 وقيل 52 سنة وقيل 55" (1) سئل -يوماً- عن نسبه قال : أغناني أدبي عن نسبي . وكان من أجود الناس بديهة وأرقهم حاشية ، وله اشعار كثيرة في مدح مولانا الرضا عليه السلام فمنها قوله : مطهرون نقيات جيوبهم * تتلى الصلاة عليهم أينما ذكروا من لم يكن علويا حين تنسبه * فما له في قديم الدهر مفتخر والله لما برى خلقا فأتقنه * صفاكم واصطفاكم أيها البشر فأنتم الملا الأعلى وعندكم * علم الكتاب وما جاءت به السور روي أنه لما أنشدها قال الرضا " عليه السلام " قد جئتنا بأبيات ما سبقك أحد إليها ، يا غلام: هل معك من نفقتنا شئ ؟ فقال ثلاثمائة دينار فقال أعطها إياه ثم قال يا غلام سق إليه البغلة (2). النشأة العلمية : يُعَدّ أبو نؤاس قامة من قامات الشِّعر العربي على مدى تاريخه الأدبي و أبرز شعراء العصر العباسي الأول . يكنى بأبي علي وأبي نؤاس والنؤاسي . ولد لأب دمشقي ، أمّا أمه ففارسية واسمها جُلبان ، ولم يكن أبواه معروفي الأصل والفصل ، وإنما فقراء ، بالكاد تتوفر لديهما لقمة العيش ، وبعد معركة الزاب الأعلى، انتقلت أسرة الشاعر من الأهواز إلى البصرة، وهو في الثانية من عمرهِ، أو السادسة، وما أن كبر قليلاً حتى عهد به أبوه إلى القرّاء لتعلم قراءة القرآن الكريم ، وما لبث أن مات هذا الأب، فأسلمته أمه إلى الكتّاب، ثم إلى عطّار يعمل عنده أجيراً، يبري عيدان الطّيب ، فوازن بين الكسب المعيشي ، والطلب العلمي ، والبصرة في تلك الأيام ، كان لها المركز الأول في العالمين العربي والإسلامي من حيث الشعر والأدب والعلم والفكر والثقافة واللغة والنحو والفلسفة . نشأ وترعرع بين عدة من فطاحل اللغة والادب منهم الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه والأصمعي وأبي زيد الأنصاري ، وأبي عبيدة وخلف الأحمر ، وتتلمذ على يد الأخيرين بشكل خاص ، وحصل على ثقافة واسعة منذ عقده الأول ولكن أستاذه خلفاً الأحمر لم يسمح له بنظم الشعر إلا أنْ حفظ جملة صالحة من أشعار العرب ، ثم طالبه بنسيانها، بعدها انتقل الى الكوفة وتأثر بشعرائها ومدرستها وقد اكتسب من التجارب ما تغنيه لتحديد ملامح حياته الشعرية والاجتماعية والسلوكية، ثم عاد إلى البصرة . ولمّا أصبح له باع طويل في الشعر والأدب واللغة شدّ الرحال إلى بغداد في الشطر الأول (حوالي 179 هـ ) من حكم الرشيد وكانت بغداد وقتها حاضرة الادب والثقافة، وبعد تعرّض البرامكة لغضب الرشيد خرج أبو نواس من بغداد متوجهاً إلى دمشق ، ومنها إلى مصر خوفاً من الرشيد بعدها عاد الى بغداد وبقي فيها لحين وفاته ، وقد اختلف في سنتها كما ذكرنا. ما قيل فيه: قال الشيخ أبو علي الحائري (قدس سره) في منتهى المقال: «وأمّا الحكايات المتضمّنة لذمّه فكثيرة، لكن غير مسندة إلى كتاب يُستند إليه، أو ناقل يُعوّل عليه، وكيف كان هو من خُلّص المحبّين لهم(عليهم السلام)، والمادحين إيّاهم» (3). قال الجاحظ: ما رأيت رجلا أعلم باللغة ولا أفصح لهجة من أبي نواس (4). وقال إسماعيل بن نوبخت: ( ما رأيت قط أوسع علما من أبي نواس ولا أحفظ منه مع قلة كتبه ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا له إلا قمطرا (5) فيه جزاز (6)مشتمل على غريب ونحو لا غير) (7)، وقال أبو عبيدة:(( كان أبو نواس للمحدثين كامرئ القيس للمتقدمين)، وأنشد له النظَّام شعراً ثم قال: (هذا الذى جمع له الكلام فاختار أحسنه)، وقال كلثوم العتابي: (لو أدرك أبو نواس الجاهلية ما فضل عليه أحد)) (8) . قال ابن المعتز في (طبقاته) : ( كان أبو نواس ٍ عالماً فقيهاً عارفاً بالأحكام والفتيا، بصيراً بالاختلاف، صاحب حفظٍ ونظرٍ ومعرفةٍ بطرق الحديث، يعرف محكم القرآن ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه) (9) . وقد روي عن ابي نواس انه قال في نفسه: "ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى الأخيلية فما ظنكم بالرجال؟) (10) مختارات من شعر أبي نواس: في التوبة والزهد : اِلهِي لَسْتُ لِلْفِرْدَوْسِ اَهلاً وَ لاَ اَقْوَى عَلَى النَّارِ الْجَحِيْمِ فَهَبْ لِي تَوْبَةً وَ اغْفِرْ ذُنُوْبِي فَاِنَّكَ غَافِرُ الذَنْبِ الْعَظِيْمِ وَ عَامِّلْنِي مُعامَلةً الْكَرِيْمِ وَ ثَبِّتْنِي عَلَى النَّهْج الْقَوِيْمِ إلّهَنَا مَا أعدَلَك مَلِيكَ كُلِ مَن مَلَك لَبَيكَ قَد لَبَيتُ لَك لَبَيك لَا شَرِيكَ لَكَ وَالَليلِ لَمَا أَنحلَك والسَابِحَاَت فيِ الفَلَك عَلَى مَجَارِىِ المَنسَلَك مَا خَابَ عَبدٌ أَمَّلَك أَنتَ لَه حَيثُ سَلَك لَولَاكَ يَا رَبِ هَلَك كُلِ نَبِى وَمَلَك يَا مُخطِئاً مَاأعقَلَك عَجِل وَبَارِز أَجَلَك وَاختِم بِخَيرٍ عَمَلَك لَبَيكَ إن الحَمدَ لَك وَالعِز لَا شَرِيكَ لَك ذُنُوْبِي مِثْلُ اَعْدَادِ الرِّمَالِ فَهَبْ لِي تَوْبَةً يَا ذَاالْجَلالِ وَ عُمْرِي نَاقِصٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَ ذَنْبِي زَائِدٌ كَيْفَ احْتِمَالِي اِلهِي عبْدُكَ الْعَاصِي اٰتَاك مُقِرًا بِالذُّنُوْبِ وَ قَدْ دَ عَاكَ اِنْ تَغْفِرْ وَ اَنْتَ لِذاكَ اَهْلٌ وَ ِانْ تَتْرُدْ فَمَنْ نَرْجُو سِواكَ في الفخر: ومستعبـدٍ إخوانـَه بثـرائه لبـستُ له كبراً لأبرَّ على الكبرِ إذا ضمَّـني يوماً وإياه محفِـلٌ رأى جانبي وعراً يزيد على الوعر ِ أخالفه في شكله، وأجـِرُّه على المنـطق المنـزور والنظر الشزر ِ وقد زادني تيهاً على الناس أنني أرانيَ أغناهم وإن كنتُ ذا فقر ِ فوالله لا يـُبدي لسانيَ حاجةً إلى أحدٍ حتـى أٌغَيـّبَ في قبري فلا تطمعـنْ في ذاك مـنيَ سُوقـةٌ ولا ملكُ الدنيا المحجبُ في القصر ِ فلو لم أرث فخراً لكانت صيانتي فمي عن سؤال الناس حسبي من الفخر ِ هذه لمحات عن هذا الشاعر الفذّ والاديب المفلّق الذي نشأ في البصرة ، وكان للبصرة أثراً واضحاً على أدبه وشخصيته حتى ذاع صيته في البلدان وانتشر شعره في الآفاق. الهوامش : 1- اعيان الشيعية : 5 2- الكنى والالقاب :1/168 3- ينظر: منتهى المقال في أحوال الرجال 7/ 263. 4- المنتظم في تاريخ الامم والملوك، ابن الجوزي:10/16. 5- والقِمَطْرُ والقِمَطْرَةُ: ما يُصان فيه الكتب. قال ابن السكيت لا يقال بالتشديد. وينشد: ليسَ بِعلمٍ ما يَعى القِمَطْـرُ ما العِلْمُ إلا ما وعاهُ الصَدرُ والجمع قَماطِرُ. الصحاح : .... 6- الجُزَازَةُ :جُذاذة، ورقة صغيرة تُكتب عليها معلومات أو ملاحظات .. 7- وفيات الاعيان: 2/96. 8- الاعلام : الزركلي:2/225. 9- طبقات ابن المعتز: ص210.. 10- طبقات ابن المعتز: ص194.. ياسين يوسف اليوسف
صور من الموضوع ...
نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.