مركز تراث الحلة
 عدنان سماكة
التاريخ : 17 / 7 / 2020        عدد المشاهدات : 1113

تقترن ثقافةُ كلِّ امرئ بأصولها، تلك الأصول التي تبنى عليها شخصية الفرد، فإن كانت أصولاً هشّة وضعيفة، أنتجتْ بناءً خاوياً وهزيلاً، لا يَقوى على مواجهة الانحراف ومُقاومة العابر، أمّا إذا كانت أصولاً قويّة وراسخة تتغذّى على منابع  الفكر الصحيح، فإنها تتهجَّى طريقها على مشكاة الإيمان وقوّة الإرادة.

ولعلَّ الباحثَ التراثيّ والمؤرِّخ عدنان سماكة واحدٌ من تُراثيّي مدينة الحلّة، ومُثقّفيها، فهو ينتمي منذ نشأته الأولى إلى ثقافة هذه المدينة وتاريخها الزاخر بالأسماء المبدعة في مختلف الثقافات.

إنَّه اسمٌ عاش في وجداننا، وتردّد كثيراً على ألسنتنا، أديب ومؤرِّخ تراثيّ فاضل، اختطَّ طريقَه منذ الطفولة عبر مؤسّسةٍ دينيةٍ استقامت لها أبجديات الزهد والحِلم والتقوى.

والرَّاحل واحدٌ من هذه الرموز الثقافيّة والأدبيّة والتراثيّة الحلِّية، ترجع أصولُه إلى آل سماكة، من قبيلة ربيعة ـ فخذ الأمارة - وهي العائلة التي عُرفت منذ أربعينيات القرن الماضي بممثليّة المرجعيّة الدينيّة في النجف الأشرف؛ إذ كان الشيخان محمّد سماكة وعليّ سماكة مُمثِّلَينِ كَبيرينِ لهذه المرجعيّة في منطقة الفرات الأوسط.

وأتذكُّرُ -وأنا طفلٌ صغيرٌ- أنَّ هلال العيد الذي يبشِّرون بقدومه في المناسبات الدينيّة لشهري رمضان المبارك وذي الحجّة لا يقرُّ الاعتراف بحلوله إنْ لم يصدر عن أحد  الشيخين رحمهما الله؛ ذلك لأنّ هذه العائلة تتمتع بقدسية خاصَّة ورمزيّة مشهودة في مجال الفقه والوعظ والإرشاد .

وُلِدَ عدنان سماكة في مدينة الحلَّة، محلّة الورديّة عام 1934م، لأبٍ كان شيخاً يعمل في تعليم الصبيان القراءة والكتابة، ولمَّا بَلَغَ  السادسة من العُمر دَخَلَ مدرسة الفيحاء الابتدائية عام 1941م، وتدرَّج في الحصول على الدراسة المتوسّطة حيث انتظم في الدخول إلى دار المعلِّمين الابتدائية في بغداد، وتعرَّض إلى الفصل من الدار في سنته الأُولى، لاتهامه بالمشاركة في انتفاضة عام 1952م، ثمّ شُمِلَ بالعفو العام لِيُعاود الدراسة مرَّة ثانية، وتخرَّج مُعلِّماً للغة الانكليزيّة، وعُيِّن مُعلِّماً في مدارس الحلّة، غير أنَّ طموحه لم يتوقّف، إذ ما لبث أن عاد مرّة أخرى إلى مقاعد الدراسة الجامعيّة في الجامعة المستنصريّة سنة  1963م، ليكمل فيها دراسته الجامعيّة، ويتخرَّج فيها مدرِّساً للغة العربيّة.

   مارس تدريس اللغة العربيّة في مدارس مركز مدينة الحلَّة المختلفة سنة 1968م، وتنقَّل في العديد منها، كما عمل -إضافة إلى وظيفته - أميناً لمكتباتها؛ لحرصه الكبير على تطوير هذه المكتبات، ومساعدة الطلّاب في الدراسة وتحفيزهم على الكتابة.

كما تميَّز بحبِّه للعلم وشغفه بالصحافة والمساهمة في بعض الإذاعات التي كان يُلقي فيها بعض محاضراته وقراءاته للتاريخ والتراث، بصوت ونبرة واثقة في نطق الكلمات، وامتازت بحسن الأداء وجَهوَريّة الصوت.

دخل معهد التاريخ في بغداد سنة 2003م، وأكمل فيه دراسته العليا بالحصول على شهادة الماجستير في موضوعة (قبيلة ربيعة ودورها السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ في العراق إلى نهاية العصر العبّاسيّ 656 هـ/ 1258م) بتقدير امتياز، سنة 2006م، وقد استمرّ في التواصل مع هذا المعهد بُغية حصوله على درجة الدكتوراه التي كان يأمل مناقشتها قبل رحيله.

مكتبة المؤرخ عدنان سماكة

كان لسماكة مكتبة شخصيّة، وقد اتخذت هذه المكتبةُ ركناً جانبياً من بيته، فهي غرفة صغيرة تطلّ على الفضاء الخارجيّ من المنزل، تتخلَّلها رفوف خشبية مركونة على الحائط، انتظمت فيها عشراتُ الكتب والمصادر، بالإضافة إلى أنواع الصحف، يتوسَّط الغرفةَ مكتبٌ صغير يقوم عليه الرَّاحل بممارسة حياته اليوميّة بالقراءة والكتابة والتأليف.

   هذه المكتبة عبارة عن بحبوبة منزوية في غرفته، حيث يتلمس في هذا الطقس اليوميّ نوعاً من الاطمئنان والانشداد إلى عوالمه الجميلة مع الكتاب.

   وذكرَتْ زوجُ الراحل عدنان سماكة أنّ هذه المكتبة لا تضمُّ كلَّ مقتنياته من المراجِع والكتب، ففي الطابق العلويّ العشراتُ من الكتب الأخرى التي لا يسعها هذا المكان، وأنّ أكثرها من مقتنيات والد زوجِهِ الشيخ محمَّد سماكة، وقد آلت ملكيَّتُها إليه، غير أنّ يد الزمن أتت على بعضها؛ فتعرَّض إلى التلف لِقِدمها وتنقّلها من مكان إلى آخر، وقسمٌ منها كان يضمُّ مؤلَّفات ومخطوطات ممنوعة، تمّت مصادرتها أيّام النظام السابق تحت سطوة الخوف والاستبداد.

   وأشارت الى أنّه كان مُلتصقاً بهذا المكان (المكتبة) وهو مكان إقامته، زاهداً في ما حوله، فمكتبته هي كيانه الروحي، وتكوينه الإنسانيّ، حيث يرى في هذا العالم عالماً آخر تتجلّى فيه خطرات السمو والرفعة، إذ كان يمكث بين هذه القلائد لا يبرحها إلّا في أوقات متأخِّرة من اللَّيل، مُكبّ على الاستزادة من أنوار المعرفة، وتنوير الذات.

   وعلى الرغم من ظروف سماكة المعيشيّة القاسية إلّا أنّه لم يشتكِ أو يتبرَّم من ثقل الحياة (وتحسبهم أغنياء من التعفُّف). كان (رحمه الله) عفيفاً، دمث الأخلاق، نقيّ السريرة، هادئ الطبع رويّ الفكرة، ولا يسعى في ذلك إلى طلب الأجر، ولا يتردَّد في الاستجابة لتحقيق المراد، كما أنّه لا يرغب في مغادرة ماضيه، وما اعتاد عليه من طريقة في استعمال  القلم الحبر في تدبيج كتاباته وتشكيلها حرفاً حرفاً؛ لكي لايغفل المحرِّر الثقافيّ من توجيهها بصورتها  الحقيقيّة في الصفحات الثقافيّة.

له مؤلَّفات، نذكر منها: (حصاد السنين) الذي صدر سنة 2008م، و(شذرات من القرآن الكريم) الذي صدر سنة 2010م، وقد احتوى فصله الأوّل على معاني الأسماء، وعَنوَنَ الفصلَ الثاني منه بـ(فوائد لغويّة)، وعَنوَنَ الفصلَ الثالث بـ(اللّغة العربيّة لغة العِلم والحضارة والجمال)، وأمّا كتابه الثالث فهو (قبيلة ربيعة ودورها السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ في العراق إلى نهاية العصر العبّاسيّ  656هـ/ 1258م).

رحل إلى بارئه العزيز سبحانه وتعالى يوم الخميس الموافق 21/1/2016 م، عن عُمُر تجاوز الثمانين عاماً، ودفن في مقبرة عائلة آل سماكة في النجف الأشرف.

  تمّ تكريم عائلته، بتسمية شارع الكورنيش في الصوب الصغير المحاذي لشط الحلّة من المدينة باسم: ( شارع آل سماكة ) اعترافاً بتاريخ هذه العائلة العلميّة وجهودها في الفقه الإسلاميّ والحفاظ على التراث الدينيّ.

لقد مضى عدنان سماكة إلى تخوم الأبديّة، إلّا أنّه ماثلٌ في ضمير الأجيال فكراً نيِّراً وتراثاً لم يدركه الزوال.

حفل تابيني بمناسبة اربعينية الفقيد​
 


اعلام مركز تراث الحلة


اتصل بنا
يمكنكم الاتصال بنا عن طريق الاتصال على هواتف القسم
+964     7602326873
+964     7721457394
أو عن طريق ارسال رسالة عبر البريد الالكتروني
media@mk.iq
info@mk.iq

تطبيق المعارف الاسلامية والانسانية :
يمكنكم ارسال رساله عن طريق ملء النموذج التالي :
اتصل بنا

او مواقع التواصل الاجتماعي التالية :