شهدت مدينة الحلّة منذ بواكير تأسيسها حركة علميّة وأدبيّة رائدة، لاسيما في القرنين السابع والثامن الهجريين، بفضل أبنائها فهم امتداد لفقه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، فأنتج ذلك معطيات فكريّة يبقى العالم الإسلامي مدينًا لها على مدى التاريخ، فظهر لدينا كثير من العلماء والأدباء ممن أغنوا التراث الحلي بمؤلفاتهم وعلومهم، ومنهم:
الحسن بن داود الحِلِّيّ:
هو تقيّ الدين الحسن بن علي بن داود الحِلِّيّ (رحمه الله)، ولد في مدينة الحِلِّة في خامس شهر جمادى الآخرة سنة(647هـ)، وقد ذكر ذلك في القسم الأول من كتابه (الرجال) تحت تسلسل(439)، فقال:« الحسن بن علي بن داود، مصنّف كتاب علم الرجال، مولده خامس شهر جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وستمائة».
نشأ ابن داود في مدينة الحِلَّة نشأةً صالحة في كنف العلماء والفقهاء آنذاك، يوم كانت الحِلَّة مركزًا للعلم والعلماء، فأسهمت هذه البيئة في بناء شخصيَّتهِ العلميَّة ونبوغه على المستوى الفقهيّ والأدبيّ والنحويّ، فقد تتلمذ على أشهر علماء وفقهاء عصره، منهم: (السيد جمال الدين أحمد ابن طاووس، والسيد عبد الكريم ابن السيد أحمد ابن طاووس، والشيخ بن جهيم الأسديّ(رحمهم الله جميعًا)، وغيرهم من العلماء آنذاك، فأفاد منهم أيَّما إفادة جعلته فيما بعد عنوانًا للفقه والأصول والنحو والأدب، فأصبح شيخًا يشار له بالبنان.
ونتيجة لذلك تتلمذ على يده العديد من طلبة العلم والمعرفة منهم:(رضيّ الدين بن يحيى المزيديّ الحِلِّيّ، وابن طراد المطار آباديّ، وابن معيّة)، وغيرهم وقد رووا عنه أيضًا.
ومن الجدير بالذكر أنَّ الحسن بن داود كان معاصرًا وشريكًا للعلّامة الحِلِّيّ (الحسن بن يوسف) في الدرس عند المحقق الحِلِّيّ صاحب (الشرائع) ، لكن العلَّامة الحِلِّيّ أصغر منه بسنة واحدة، إذ ولد في التاسع والعشرين من شهر رمضان سنة ( 648هـ)، وقد ترجم ابن داود للعلّامة الحِلِّيّ في كتابه(الرجال) في القسم الأول ضمن مَن يُعتمد عليهم بتسلسل(466)، لكن العلَّامة الحِلِّيّ لم يذكر ابن داود في كتبه الرجاليَّة؛ لأنَّ الذي وصل إلينا من كتب العلَّامة الرجاليَّة في الذين سبقوه، وليس في الذين عاصروه؛ فمن البدهيّ ألا يذكره العلَّامة الحِلِّيّ.
وقد ألّف كثيرًا من الكتب ذكر بعضهم أنّها تربو على العشرين كتابًا في الفقه وغيره منها: تحصيل المنافع، والتحفة السعديَّة، والمقتصر في المختصر، والكافي، والنكت.
وفي أصول الدين مثل: الدرّ الثمين في أصول الدين، والخريدة العذراء في العقيدة الغراء.
وفي المنطق مثل: إحكام القضيّة في أحكام القضيَّة، وأصل الأشكال في عقد الإشكال
وفي العروض مثل: قرة عين الخليل في شرح النظم الجليل.
وفي النحو مثل: مختصر الإيضاح، وحروف المعجم، ومختصر أسرار العربيِّة، وغيرها من الكتب في مختلف الفنون العقليَّة. لكنّه لم يكتفِ بالتأليف فقط بل نجده ناسخًا أيضًا إذ ذكر صاحب فهرس(فنخا) أنّه نسخ مخطوطين، الأول: (الفصيح المنظوم) لابن أبي الحديد عبد الحميد بن هبة الله(556- 586هـ)، وتوجد في طهران في مكتبة ملك، وقد حقّقها(محمد بدوي المختون)، والأخرى: (بناء المقالة الفاطميَّة في نقض الرسالة العثمانيَّة) لأحمد بن موسى بن طاووس(673هـ)، وهي محقّقة من قِبَل السيد علي عدنان غريفي في قم (مؤسّسة أهل البيت).
إنَّ المتتبّع لنشاط بن داود الحِلِّيّ من خلال كتبه المتنوعة يجده يمتاز بالموسوعيَّة، فقد ربط بين فروع العلم المختلفة، وخصوصًا في علم الرجال الذي مثَّل نسبة كبيرة من شهرته في العصور التي تلته فقد نال هذا الكتاب قسطًا وافرًا من الشهرة وربّما يرجع ذلك؛ إلى أنّ العناية بعلم الرجال في عصر ابن داود الحِلِّيّ كان في ذروته ويكفينا أن نذكر أنَّ العلَّامة ألّف في هذا العصر(خلاصة الأقوال) و( إيضاح الاشتباه) في علم الرجال.
لقد فرغ ابن داود الحِلِّيّ من تأليف هذا الكتاب عام (707هـ) كما يذكر في الكتاب نفسه، والكتاب طبع مرتين: الأولى في طهران عام (1383م) بتحقيق السيد جلال الدين محدث، والأخرى في النجف في عام(1392م) بتحقيق السيد محمد صادق بحر العلوم، والكتاب – طبعة النجف- يقع في مجلّد واحد وعلى قسمين في( 355) صفحة، جاء القسم الأول في الممدوحين ومن لم يضعّفْهم الأصحاب فيما عَلِمَه ابن داود، والجزء الثاني في المجروحين والمجهولين، والكتاب مرتّب حسب الترتيب الألفبائيّ، وأعقب ذلك بابين هما: (باب التنبيهات، وباب الكنى)، إلّا أنَّ باب التنبيهات أمر ضروري لفهم الكتاب ومحتوياته؛ فالقارئ لا بدَّ من أن يطَّلع عليها لكي يتم ربط المعطيات العامّة للكتاب، فمثلا يقول:« إذا وردت رواية من محمد بن يعقوب عن محمد بن إسماعيل بلا واسطة ففي صحتها قول؛ لأنَّ في لقائه له إشكالًا»، فتقف الرواية لجهالة الواسطة بينهما، وإن كانا مرضيّين معظّمَيْن، وكذا ما يأتي عن الحسين بن محبوب عن أبي حمزة.
السيد محمد صادق بحر العلوم
ومنها: ((إذا وردت رواية يروي فيها موسى بن القاسم عن حمّاد فلا تتوهّمْها مرسلة لكون حمّاد من رجال الصادق (عليه السلام)؛ لأنَّ حمّادًا إمَّا ابن عثمان وقد بقي إلى زمن الرضا (عليه السلام)، وروى عن الصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام)، وأمَّا ابن عيسى فقد عمَّر من زمن الصادق(عليه السلام) إلى زمن أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، لكنّه لم يروِ عن الرضا ولا عن أبي جعفر (عليهما السلام)، وعندي في أنَّه روى عن الكاظم( عليه السلام) تردد، لأنَّي لم أقف له على ذلك. مات سنة تسع ومئتين غريقًا عن نيّف وسبعين سنة)).
فمن هذه المعلومات ندرك أهميّة مراجعة التنبيهات فإنَّها تنفعنا في فهم حال الرجال فنضعهم ورواياتهم في المكان الصحيح من حيث الاعتماد عليهم أو عدمه.
ونجد ابن داود أيضًا في معظم أشعاره، فهو ذو قريحة وملكة جيّدة في النظم، فقد ذكر في ترجمته لنفسه عددًا من مؤلفاته المنظومة منها: اللمعة في الصلاة، وعقد الجواهر في الأشباه والنظائر، وعدّة الناسك في قضاء المناسك، والدّر الثمين في أصول الدين، والخريدة العذراء في العقيدة الغراء، وغيرها من المؤلفات المنظومة التي ذكرها ابن داود في ترجمته لنفسه، ومن أشعاره قوله:
الحمد لله الذي تقادما |
|
سلطانه وشأنه معظما |
وأيضًا له قصيدة مطولة يرثي بها محفوظ بن وشاح بن محمد الأسديّ المتوفى سنة (690هـ) بالحِلَّة، فيقول فيها:
لك الله أي بناء تداعى |
|
وقد كان فوق النجوم ارتفاعا |
وأي علاء دعته الخطوب |
|
فلبى ولولا الردى ما أطاعا |
فهو رجلٌ، موسوعيّ لم يقتصر على ميدان معيّن بحدّ ذاته إلى أن لبّى نداء ربِّه، لكن المصادر لم تحدّد سنة وفاته، فبعضهم يقول إنَّه كان حيًّا عام( 693هـ)، لكن أغا بزرك الطهرانيّ قال: إنَّه ألّف رجاله سنة (707هـ) ، فيكون ابن داود قد أدرك القرن الثامن ولكن لا نعلم كم عاش فيه، وقد ذكر السماويّ أنّه توفي (740هـ)، لكنّ السيد الأمين في (أعيان الشيعة) قال: لم أجد أحدًا أرَّخ لوفاته بهذا العام، وعلى هذا تكون وفاته مجهولة إلّا أنَّه كان حيًا في سنة (707هـ)، وهو تاريخ تأليفه لكتاب الرجال والحمد لله ربّ العالمين.
أغا بزرك الطهرانيّ
زيارة اربعينية الامام الحسين عليه السلام - 1442 6 / 10 / 2020 |
|
إحياء تراث علماء وأعلام مدينة الحلّة الفيحاء 11 / 6 / 2017 |
|
الندوة المشتركة مع مركز دراسات الكوفة في رحاب مركز تراث الحلة 9 / 10 / 2016 |
|
مقام رد الشمس في مدينة الحلة 8 / 8 / 2016 |
|
المنتدى التراثي العاشر.. احتفال المركز بذكرى تأسيسه السابعة 28 / 2 / 2021 |
|
مركز تراث الحلة يحتفي بسنته الثالثة في رحاب الجامعة الاسلامية/بابل 2 / 8 / 2016 |
|