مركز تراث الحلة
ثورة ساحة الحشَّاشة في الحِلَّة
التاريخ : 9 / 5 / 2020        عدد المشاهدات : 2325

    إنَّ المتابع لتاريخ الحِلَّة، في حقبة الاحتلال العثمانيّ، يجد أنَّ أهالي الحِلَّة لم يركعوا للاحتلال وما يتبعه من امتهان للكرامة الإنسانيَّة، ولم يرفعوا راية الاستسلام إزاء جور الحكَّام العثمانيِّين، وظلمهم، على الرغم مِن قساوة الهجمات التي تعرضت لها المدينة.

    تميزت الأحداث السياسيَّة في مدينة الحِلَّة ما بين عهد سليمان باشا الكبير (1785م) وحتَّى مجيئ عبد الله التوتنجيّ (1810م) بعدة أمور منها: قلة الانتفاضات العشائريَّة لانشغال الحكومة والعشائر بصد الغارات الوهابيَّة، وضرب الحكومة للعشائر الممتنعة عن دفع الضرائب التي كانت تُجبى منهم قسرًا، كما حدث في عام (1805م)، عندما نزل والي بغداد علي باشا (1802-1807م) في مدينة الحِلَّة، وتغيير الولاة بين حين وآخر، ومن ذلك عزل الكهية علي باشا لحاكم الحِلَّة علي جلبي سنة (1801م)، في عهد الوالي سليمان باشا الكبير، بعد عودته من الحملة العسكريَّة التي شنَّها ضد عشيرة عنزة في الطهمازية،

المدافع العثمانية تضرب الحلة

وتعيين مراد جلبي محله، وفي عام (1813م) عزل مراد جلبي، وعين محله عبد الله باشا حاكمًا للحِلَّة، وعزل في السنة نفسها من أجل تنصيب حاكم أكثر ولاء لحكومة بغداد، وهو محمود أغا السفَّاك، الذي عرف عصره بالظلم، والتعسف، والجور لذا سُمي بـ(السفّاك)، ففتك بأهل الحِلَّة، وهدم دورهم، وأسر عددًا كبيرًا من الرجال والنساء، ونفاهم إلى بغداد، ليوزعوا بين البلدان، إلَّا أنَّه قُتل بعد ذلك قتلةً شنيعة ليتولى الحاج (طالب أقا) حكم الحِلَّة في عام (1813م)، وبعد انتهاء الخطر الوهابيّ على الحِلَّة عادت الانتفاضات العشائريَّة ضد الحكومة؛ لانشغالها بقتال عبد الله  البابانيّ، ولاسيما في عهد سعيد باشا (1813-1816م) الذي كان عازمًا على إنهاء حركة شيخ الخزاعل سليمان المُحسن، فوصل الحِلَّة ونصب خيامه فيها، فوقفت العشائر الأخرى ضده، ومنها زبيد، والخزاعل، وعنزة، وشمر الجربا، والظفير ففشل في صدها، فأحال القضية إلى داوود باشا سنة (1229هـ-1814م) فجهَّز داوود جيشه، وبثَّ الرعب في العشائر المنتفضة، وعزل شيخ زبيد، ونصَّب مكانه شفلح الشلَّال، واستولى على أموال وأغنام عشيرة جبور الواوي، وفرَّق أهلها.

القوات التركية على مشارف الحلة

    وفي عام (1233هـ -1817م) أخضعت الحكومة عشائر الدليم، والجربا بحملةٍ عسكريَّة، في عهد داوود باشا، بقيادة محمَّد أغا الكهية، وعرجت من هناك نحو الحِلَّة، ونزلت على نهر الفرات، بالقرب من نهر الهنديَّة؛ لضرب عشيرة اليسار المنتفضة، فاستولت على مواشيها وشرَّدتها، وكان حاكم الحِلَّة في تلك المرحلة سليمان أغا الأربليّ، وكان ظالمًا، مُتعسفًا، شديدًا على أهل الحِلَّة، حتَّى أنَّه كان ناصبًا على باب محكمته جذعًا يُصلب عليه مَن يتمرّد، أو يخرج على السلطة، ومن الانتفاضات العشائريَّة التي واكبت حكم الأربليّ في الحِلَّة انتفاضة عشيرة الصقور، فأرسل إليهم الخزنة دار يحيى أغا، على رأس حملة عسكريَّة، فانكسرت، ولاذت قواته بالفرار نحو قلعة الدريعية.  

التنكيل والقتل السياسة العثمانية الرائجة

   ونتيجة للحملات التي قامت بها سلطات بغداد ضد أهالي الحِلَّة، وعشائرها واستخدامهم أسلوب التنكيل بالأهالي، فضلًا عن نقص الخدمات، وجور الولاة المعينين من بغداد في الحِلَّة، هذه الأسباب وغيرها جعلت أهالي الحِلَّة على أهبة الاستعداد للانتفاض ضد السلطات العثمانيَّة، وفي عام (1824م) كانت الفرصة مؤاتيه لأهالي الحِلَّة، حينما ثار محمَّد أغا الكهية ضد الوالي داوود باشا عام (1824م)، فتعاطف أبناء الحِلَّة مع ثورته، وأسهموا معه في القتال، على أمل تخليصهم من الأوضاع المزريَّة التي يمرون بها، سيما وأنَّهم غاضبين على تصرفات نائب الوالي علي سليمان أغا في الحِلَّة، وسوء ادارته للمدينة، والتنكيل بالأهالي لأتفه الأسباب، ولما رأى سليمان الأربليّ حاكم الحِلَّة تضامن الحِلِّيِّين واتحادهم وابتعادهم عن دوائر الدولة، عزا ذلك إلى الشيخ موسى كاشف الغطاء؛ لنفوذه، وعلو منزلته عند الحِلِّيِّين، فأمر بإخراجه وعائلته، من الحِلَّة فاستاء الحِلّيُّون، حتَّى وصفه الشاعر صالح التميميّ بقوله:

بمَن تُفاخر الفيحاء والفخرُ دأبها       قديمًا وعنها سارَ موسى بأهلِه

وغادرها مِن بعدِ عزٍّ ومنعةٍ             تُحاذر كيد السامري وعجله

   وجاء طرد الشيخ موسى ابن العلَّامة جعفر الجناجيّ كاشف الغطاء وعائلته من مدينة الحِلَّة، بذريعة أنَّ وجوده يشكِّل خطرًا على أمن المدينة وسلامتها؛ لتزيد من إصرار الأهالي بمناصرة محمَّد الكهية ضد داوود باشا حينما عزم على القيام بالثورة عليه، لقد أحدث وجود سلمان باشا في إدارة الحِلَّة مزيدًا من التذمر، والاستياء لدى الحِلِّيِّين، واستمرت الحالة كذلك حتَّى نهاية عام (1824م)، ففي أواخر هذا العام انشق الكتخذا (معاون الوالي) محمَّد أقا على حكومة داوود باشا في بغداد، فقرَّر اللجوء إلى الحِلَّة، وأعلن تمرده فيها.

  ويرى بعض الباحثين أنَّ محمَّد أغا اختار الحِلَّة بناءً على دعوة وجهائها، الذين أصابهم الحيف من سليمان أغا، بينما يرى بعضهم الآخر أنَّه كان مُدركًا لحالة التذمر التي يعيشها الحِلِّيُّون وكرههم للوالي داوود باشا، الأمر الذي سيمكَّنه من الانفراد بحكم الحِلَّة عن مركز الولاية (بغداد).

  رأى أهالي الحِلَّة أنَّ الوقت مناسب في التخلص من ظلم وتعسف الولاة العثمانيِّين، فالتفوا حول محمَّد الكهية، الذي استولى على المدينة وجعلها قاعدة له، والانطلاق منها باتجاه بغداد، والسيطرة عليها، ومن ثم إعلان الوزارة لنفسه، فأرسل إلى عشائر المنطقة؛ لكسب تأييدهم ومساندتهم، فالتفَّ حوله قسمٌ مِن ثوارها الذين أخذوا يتوافدون الى الحِلَّة، وصارَ الهجوم على بغداد وشيكًا، وعندما وصلت أخبار استعدادات أهالي الحِلَّة إلى مسامع داوود باشا استعدّ للأمر جيِّدًا، وقام بإرسال رتلين من جنوده إلى الحِلَّة، فتصدَّى لهما الثوار وكسروهما، ممَّا زاد مِن عزيمة الثوار.
    حاول داوود باشا الخروج من هذا المأزق، وذلك بإرسال حملة أُخرى إلى الحِلَّة، بقيادة طالب أغا، وهو من العُقيلين الذين وقفوا إلى جانب داوود باشا، واستعمل الوالي هذه المرة سلاح الدعاية والحرب النفسيَّة، فانفضت عن محمَّد الكهية بعض القبائل مثل الجشعم، وكانت المعركة بين الطرفين في كرٍّ وفرٍّ، إلَّا أنَّها مالت في الأخير لصالح داوود باشا وجيشه، فدخل الحِلَّة، وأباحها لجنوده، وهدم الدور وقتل كلَّ مَن كان مواليًّا لمحمَّد الكهية، الذي لاذ بالفرار إلى إيران، وأبقى في الحِلَّة حامية عسكريَّة من العُقيليِّين بقيادة طالب أقا .

عبور العشائر المنتفضة الجسر
     كانت الحامية العقيلية غير مُرحب بها في الحِلَّة؛ بسبب تصرفاتها الطائفيَّة؛ إذ كانت تتصرف مع الأهالي بمنتهى القسوة، وكأنَّهم عبيدٌ لها، ممَّا جعل أهالي الحِلَّة ينفرون منها، ونتيجة لتلك التصرفات قرَّر الأهالي وضع حدًّا لتلك التصرفات، والأعمال السيئة التي تقوم بها الحامية، عن طريق رفع السلاح بوجهها، وبدأت الاستعدادات تجري على قدم وساق، وتجمّع الثوار مع أسلحتهم البسيطة، في أحد الجوامع البعيدة عن أنظار الحامية، وفي إحدى الليالي من عام (1825م)، حانت ساعة الصفر لانطلاق ثورة أهالي الحِلَّة على تلك الحامية الجاثمة على صدورهم، التي اتخذت من إحدى ساحات الحِلَّة القديمة المعروفـة بساحـــة (الحشَّاشة)، مقرًّا لها، وفي هذه الواقعة أبلى أهالي الحِلَّة بلاءً حسنًا؛ إذ تمكَّن الثوار من محاصرة الحامية، ومِن ثم الدخول إليها بعد أن أحرقوا بابها، وقتلوا كلّ مَن كان فيها انتقامًا لأبناء الحِلَّة الذين سقطوا على ايدي تلك الحامية، وبقيت الحِلَّة بعد هذه الحادثة بيد أهلها، ولم يبقَ للسلطة العثمانية فيها أثرٌ يُذكر، وتمكَّن الثوار من نشر الأمن، والاستقرار في أزقة وأحياء الحِلَّة، ونشر الدوريات الراجلة ليلًا، وتعقُّب مُثيري الفوضى، والعابثين بأمن وراحة المواطنين، وعلى أثر ذلك جهز الوالي داوود باشا حملة عسكريَّة جديدة، وأرسلها إلى الحِلَّة  للانتقام من أهلها، ولما علم الحِلِّيُّون بذلك استعدوا لملاقاتها، ودارت بين الطرفين معركة هائلة، وقد أثخنوا في عسكر والي  بغداد، من حيث كثرة الجرحى، والقتلى، وكادت الغلبة تتمُّ للحِلِّيِّين بيدَ أنَّ بعضَ الثوار لما جلب الماء إليهم مالوا إليه ليشربوا، فظنَّ مَن بقي في ساحة القتال أنَّ الهزيمة وقعت على أصحابه، فاضطربت صفوفهم، وانتشر الذعر، وعبروا  إلى الجانب الآخر مِن الجسر، ولما تكاملوا احرقوه، لكي  يوقفوا الجيش، فأخلوا الحِلَّة وخرجوا بعوائلهم، وانتهت المعركة لصالح الوالي وجيشه؛ بسبب البون الشاسع ما بين الفريقين الذي كان يميل لصالح الأخير؛ إذ تمكنوا من دخول المدينة، وفعلوا فيها ما تعجز الألسن عن وصفه، من هول الفاجعة،  وما ارتكبه من مجازر بحقِّ الأهالي، وكانت وحشيتهم تنمُّ عن حقدٍ مُتجذر في نفوسهم، فقد صاحب عمليات القتل حرق وهدم البيوت، والمحال التجارية، أمَّا زعماء الانتفاضة فقد ارتحلوا إلى (عفك)، واتصلوا بعشائرها لحشد التأييد العشائريّ، ولكن القوات المملوكيَّة استمرت في تعقبهم، فقتلت قسمًا منهم، وأرسلت رؤوسهم إلى والي  بغداد، وأصدرت أمرًا بتعيين ابن السيَّاف، حاكمًا على الحِلَّة، ولكن عزله فيما بعد الوالي علي رضا اللاظ سنة (1831م).

   انتهت الثورة، ولكنَّها أسست لما بعدها مِن الانتفاضات، والثورات التي قادها أبناء الحِلَّة ضد التسلط العثمانيّ، والتي بقي الحِلِّيُّون يتذكرونها جيلًا بعد جيلٍ.


اعلام مركز تراث الحلة


اتصل بنا
يمكنكم الاتصال بنا عن طريق الاتصال على هواتف القسم
+964     7602326873
+964     7721457394
أو عن طريق ارسال رسالة عبر البريد الالكتروني
media@mk.iq
info@mk.iq

تطبيق المعارف الاسلامية والانسانية :
يمكنكم ارسال رساله عن طريق ملء النموذج التالي :
اتصل بنا

او مواقع التواصل الاجتماعي التالية :