مركز تراث البصرة
المفجّع البصريّ
التاريخ : 9 / 6 / 2016        عدد المشاهدات : 968

عندما يتصفّح القارئ كتب الأدب العربيّ القديم والحديث، يجد أنَّ لكثير من الشّعراء دوراً واضحاً وكبيراً في بيان مظلوميّة أهل البيت (عليهم السّلام) والسعي لإنصافهم، والدّفاع عنهم في ظروفٍ حسّاسةٍ وخطيرةٍ من التّاريخ، تنكّر لهم فيها الزّمان والسّلطان، ومن بين هؤلاء الشّعراء الأعلام، المفجّع البصريّ، الذي جفته وأهملته أقلام بعض الكتاب والمؤرّخين، بسبب تعصّبهم للبيت العبّاسيّ أيام خلافتهم، فعاش الألم والمعاناة والتهميش شأنه شأن الكثير من الشّعراء المحسوبين على مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام).

وقد ذكرت كتب التّراجم نسبَ المفجّع البصريّ ومكان ولادته ونشأته ووفاته، إذ وصل عدد هذه التّراجم إلى الخمسين مصدراً، أغلبها تراجم مقتضبة، وبعضها تذكر اسمه فقط، جاء فيها أنَّه أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عبد الله الكاتب والشّاعر والأديب والنّحويّ البصريّ، الملقّب بالمفجّع البصريّ، وسُمِّيَ بالمفجّع لأنَّ أكثر شعره في الثّناء على أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) والتفجّع لمصائبهم وما انتابهم من رزايا، فلم يزل على ذلك حتى لقّبه أعداؤه بالمفجّع استهزاءً به، ولحقهم أولياؤه فلقّبوه بالمفجّع تعظيماً له، إذ قال في ذلك:

إنْ يكن قيل لي المفجّع نبزاً   ................ فلعمري أنا المفجّع هما

وُلِدَ المفجّع البصريُّ في زمن الدّولة العبّاسيّة، ولم تذكر المصادر في أي عام بالتحديد، في مدينة البصرة، وقد قضى حياته فيها حتى وفاته، ولذلك عُرِفَ بالبصريّ، كما لم تشر المصادر إلى والده ووالدته وإخوته، ولا حتى عن زواجه وأولاده.

كانت باكورة حياته العلميّة والأدبيّة منذ طفولته في جامع البصرة الكبير، وتعتبر الجلسات العلميّة والحلقات التدريسية التي تُعقد فيه، عاملاً مهماً في نشأته العلميّة، إذ عايش الأوساط العلميّة في البصرة، ونهل منها العلم والأدب، وقد قال في جامع البصرة هذه الأبيات:

الا يــا جـامـع الـبصـرة           لا خـــــرّبــــــك الله وأسـقى صحنـك الغيـث           مـــن الـمزن فـروّاه
فـكم  مـن عاشق فيـــك           يــرى مــا يـتمـنــــاه
وكـم  ظبيٍ من الإنـــس          مليح فـيــك مرعـــاه

نصبنـــــا الفخ  بـالعـلـم           لــه   فيك    قصدناه
بـقـــرآن     قــرأنـــــاه          وتــفسـيــر  رويـــنـاه

كان عالماً بأسماء المدن والبلدان، وتميّز بالأدب شعراً وتأليفاً حتى عدَّ شاعر البصرة وأديبها، وكان عالماً باللّغة العربيّة وبصيراً بغريبها، وقد كتب في هذا الأمر كتاباً عن غريب شعر زيد الخيل، كما كان حافظاً القرآن الكريم، بارعاً في علم الحديث وروايته.

ذكره الثّعالبي في (يتيمة الدّهر) بأنَّه صاحب مصنّفاتٍ كثيرة، وقد حلَّ محلَّ ابن دُريد في التأليف والأملاء في مسجد البصرة، ومع ذلك لم تذكر له المصادر المتناثرة هنا وهناك سوى خمسة عشر كتاباً منها: (أشعار أبي بكر الخوارزمي، أشعار الجواري، أشعار الحراب، غريب شعر زيد الخيل، سعادة العرب، التّرجمان في معاني الشّعر، عرائس المجالس، كتاب الإعراب، المنقذ في الإيمان).

أمَّا بالنّسبة إلى شعره، فيبدو أنّه قد جُمع في حياته أو بعد مماته بقليل، وما يؤكّد ذلك قول ابن النّديم فيه في (الفهرست): (إنَّ شعر المفجّع أبي عبد الله البصريّ يقع نحو مائتي ورقة)، وقال النّجاشيّ في (الرّجال): (وله شعر كثير في أهل البيت عليهم السّلام)، فيما ذكر القفطيُّ في كتابه (المحمّدون من الشّعراء): (وشعر أبي عبد الله المفجّع كثيرٌ حَسَنٌ)، وقد عمد الأستاذ عبد الرّسول الغفار إلى جمع وتحقيق ديوان المفجّع البصريّ، الذي احتوى على (285) بيتاً من الشّعر فقط بينما قدّر ديوانه بـ (أربعة آلاف بيت)، وممّا جاء فيه:

يا خالــق الخـلـق أجمعينـا           وواهب المال والبنينا
ورافــع السبع فــوق سبـع           لم يستعن فيهما معينا
ومـن إذا قـــال كــن لشيء          لم تقع النون أو يكونا
لا تسقنا العام صوب غيث          أكثر من ذا فقد روينا

ضمَّ ديوانه في طيّاته مقطوعاتٍ ونتفاً، إضافة إلى قصيدة (الأشباه) التي تُعدُّ من أجمل القصائد في شعره، وهي بحقِّ أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السّلام)، إذ يعدّد فيها فضائلَهُ، ومناقبَهُ، ويتطرّق إلى الأحاديث الشّريفة بحقّه، مظهراً أوجه الشّبه بين الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام) وسائر الأنبياء، فيقول فيها:

    أيـهـــــا اللائـمي لحبــي عليــا          قم ذميماً إلى الجحيم خزيا
    أبخير الأنام عرضت؟ لا زلت          مذوداً  عن  الهدى  مزويا
    أشبـه الأنـبـيــاء كـهــلاً وزولاً          وفطيماً  وراضعـاً  وغذيـا
    كــان في علمـه  كآدم إذ عُـلّـم           شرح  الأسمـاء  والمكنيــا
    وكنوح نجا من الهلك من سير           في الفلك  إذ  علا  الجوديا

ثم  يعرّج على الصفات التي اجتمعت بينه وبين خاتم المرسلين نبي الرحمة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول فيها:

كان  مثل  النبي  زهداً  وعلماً        وسريعاً  إلى  الوغا  أحوذيّا

 فرعُ  عُودهِ  أغصــانه  حسناه         زاكياً  غرسُ  أصلهِ  أبطحيّا

 كــــان للأمـة الضعيفـة كهفـاً         كــافلاً إنْ ضــاع راعٍ رعيّــا

 حربــاً في صلاحهــا وســواه         في  سَمُودٍ  يُروّض  الأرحبيّـا

كان في السّلم عابداً ذا اجتهادٍ        ولدى الحرب ضيغماً قسوريّا

وتبلغ هذه القصيدة (160) بيتاً من الشّعر، قال عنها السّيّد محسن الأمين: إنَّ هذه القصيدة تناهز الثلاثمائة بيت، فأخذت قصائده مكاناً بين القصائد المتصدّرات الخالدات، على الرّغم من خروج النّزر اليسير منها.

ومن شعره في اللجأ الى الله تعالى:

يا خالق الخلق أجمعينا       وواهب المال والبنينا

ورافع السبع فوق سبعٍ لم يستعن فيهما معينا

ومن إذا قال كن لشيءٍ لم تقع النون او يكونا

لا تسقنا العام صَوب غيثٍ اكثر من ذا فقد روينا

مدحه الكثير من العلماء بحسن عقيدته، وسلامة مذهبه، وتشيّعه، وسداد رأيه، وميله إلى أئمة الهدى(عليهم السّلام)، فقال فيه النجاشي في الرجال: (...جليل من وجوه أهل اللغة والأدب والحديث، وكان صحيح المذهب حسن الاعتقاد، وله شعر في أهل البيت عليهم السلام...)، وذكره الشّيخ الأميني في الغدير: (...ومن المعدودين من أصحابنا الإماميّة، مدحوه بحسن العقيدة وسلامة المذهب وسداد الرأي، وكان كل جنوحه إلى أئمة أهل البيت عليهم السّلام وقد أكثر في شعره من الثناء عليهم...).

أمّا وفاته، فخلاصة الأمر أنَّ خصومةً قويَّةً نشبتْ بينه وبين أبي يوسف القاضي، بعد أنْ هجاه المفجّع في إحدى قصائده، فبلغت الخصومة ذروتها، ممّا حدا بالقاضي أنْ يُرسل له بعض أعوانه فقتلوه شرَّ قتلةٍ، وكان ذلك في سنة327 هـ.

قضى حياته – رحمه الله – مقتدياً بأئمته (عليهم السّلام)، ومتّبعاً منهجَهم، متفجّعاً لمصابهم، فكانت وفاته على غرار وفياتهم (عليهم السّلام)، إذ نالته يد الغدر والعداوة، كما نالتهم (عليهم السّلام)، وحُورب في حياته وبعد وفاته كما حوربوا، فنال شرف الخلود، بخلود أئمته ورفعتهم عليهم السلام.


مركز تراث البصرة


اتصل بنا
يمكنكم الاتصال بنا عن طريق الاتصال على هواتف القسم
+964     7602326873
+964     7721457394
أو عن طريق ارسال رسالة عبر البريد الالكتروني
media@mk.iq
info@mk.iq

تطبيق المعارف الاسلامية والانسانية :
يمكنكم ارسال رساله عن طريق ملء النموذج التالي :
اتصل بنا

او مواقع التواصل الاجتماعي التالية :