نحاول في هذا المقال القاء الضوء على المباني والدور التراثية الكربلائية ، باعتبار أنها صورة صادقة للماضي .
تكاد تكون هذه المباني متقاربة الشبه الى حدٍ كبير مع أبنية بغداد من حيث التصميم الهندسي ومواد البناء والزخرفة ، وهذه الأبنية تتميز بخصائص ومميزات انشائية وتخطيطية ، فمنها ما كان بناؤها ساذجاً ، والبعض الآخر منها تمتاز بأنها ذات تخطيط خاص ، فقد اتخذت هذه البنايات في شكلها ومقاييسها ونوعية تزويقها أهمية لم يسبق لها مثيل ، ولاشك أنها تحمل خصائص وتأثيرات الحضارات القديمة.
ان الطراز المعماري الشائع في بناء البيوت في الجيل الماضي كان على نمطٍ معيّن ، فقد كان لازدحام الدور الكربلائية حول الحائر المقدس على حساب اتساع الطرق واستقامتها ، وتوزع توزيعاً خاصاً ، كأن تكون متقاربة الى حدً ما ، ومتلاصقة بعضها ببعض ، وربما لا توجد فواصل بينها ، أي ينفذ بعضها على بعض سواء من الداخل أو من السطوح .
ولعل من المفيد هنا أن أشير الى أنّ الممرات والأزقة المؤدية الى البيوت كانت تحوي التواءات ذات شكل حلزوني أو متعرج ، إذ سرعان ما يلتوي وينكسر . فقد يمرّ الشخص في احدى تلك المسالك والأزقة ، ولا يكاد يصل الى النهاية حتى يفاجأ بوجود جدار أو مدخل دار مما يضطر الى الرجوع من حيث أتى .
وانّ الأسباب الموجبة في اتباع هذا الطراز من البناء آنذاك هي المحافظة على أمن المدينة ، تجنباً لعمليات السطو من قبل الأعداء والمحتلين الطامعين ، واتقاءً للبرد القارص في الشتاء وهرباً من أيام القيظ الحارة . ولعدم معرفة الناس الفن
الهندسي في تنسيق البيوت وتوزيع الطرق بينها بشكل منسق ، لم يُعتن بها ، لذا نجد التواءات كثيرة في بعض الأزقة كزقاق العكيسة في محلة باب السلالمة وعقد النصّه في محلة باب الطاق وبركة الحافظ وعقد السادة في محلة باب بغداد وعقد الجرّاخ في محلة باب النجف وبركة العباس وعقد ياس في محلة باب الخان وعقد سيد يوسف طعمه في محلة المخيم وغيرها .
وقد يعمد بعض الأثرياء والموسرين الى انشاء بيوتهم في نهاية الزقاق وذلك لتوفير الحماية لساكنيها من الطوارئ والاحداث التي اجتاحت المدينة من ذي قبل ، كما كانت قيمتها أغلى من الدور المتقدمة .
وبالنظر لدراسة الآثار الفنية لتلك المباني والدور التراثية في كربلاء اقتضى التنويه بأهم المواد الأولية المستعملة في عملية بناء تلك البيوت وهي : مسحوق النورة والرماد وهما اللذان يستعملان في أساس البناء وما فوقه . وذلك لمنع تسرب الرطوبة الى جدران البناء ، وكذلك يستعمل الرماد المجلوب من فضلات طمة الحمام . كما يجلب مسحوق النورة من ارجاء القطر .
أما الطابوق المربع فقد غدا أكثر استعمالاً في عملية البناء . وتختص أبنية تلك الدور باستعمال طابوق (اللبن) غير المفخور ، ومما يذكر بهذا الصدد ان البلدة كانت محاطة بسور من اللبن المجفف بالشمس كما يظهر من رحلة نيبور لكربلاء سنة 1765م ومن الواضح ان الأبنية التراثية التي انشئت من طابوق اللبن تكون متينة ، لاحتوائه على مزيج من الرمل والطمي والطين . يُبيض طابوق اللبن هذا بالجص والبورق ، من أجل ان يظهر الجدار جميلاً ، وكذلك استعمل الطابوق (الفرشي) والطابوق الأبيض والأحمر المستطيل الشكل والمربع . ويوجد في ضواحي كربلاء عدد من (الكور) المعدة لصنع الطابوق .
ويجلب (الأشگنك) وهو كسر الطابوق (الآجر) لأجل وضعه في أساس البناء ، كما يفيد للتربيع أيضاً أي وضعه مع الطابوق . أما الطابوق الأبيض فانه ينحت ويزخرف من قبل (الأسطه) المعمار وذلك بواسطة الفأس والأزميل . وهناك الطابوق المقصوص وهو الناعم الذي يقص بالمنشار مرتباً بأشكال هندسية مختلفة منها مثلثة ومربعة ومستطيلة شاع استعمالها قديماً ، وذلك لوضعه في واجهات البيوت . وقد ترسم على حافة الطابوقة اشكال ورسوم كالطيور واوراق العنب يتفنن فيها البنّاء . ومما يلفت النظر في بعض البيوت التراثية تلك الجدارن المنقوشة والمزخرفة بدقة متناهية .
أما مدخل البيت فانه يتناول الباب المطل على الزقاق ، ويستعمل من خشب التوت ، تزينه مطرقة من البرونز أو الحديد في الأعلى ، وهي ذات طلاقة أو طلاقتين . كما تدق على الباب مسامير كبيرة للحفاظ على متانته وجماله . وتزين الباب نقوش بديعة . وتوجد في أعلى الباب كتيبة كتبت عليها آيات قرآنية مثل : «بسم الله الرحمن الرحيم» أو «ادخلوها بسلام آمنين» أو «هذا من فضل ربي» أو« الله جل جلاله» أو بعض الأحاديث الشريفة.
وقد يعلّق في أعلى الباب قرن غزال أو رأس سمك أو شربه أو سيراميك أزرق وذلك اتقاءً للشر .
ويتقدم البيت (المجاز) أو (الدالون) وهو مدخل يوصل الزقاق بالباحة (الحوش) أي فناء الدار ، ويعزل البيت عن عيون المارة ، ويمنع تسلط الجار على جاره . ومن خصائص المجاز أيضاً ترطيب الهواء عبر اختراقه للمجاز .
أما الطابوق الارضي فيشمل (البرّاني) وهو المكان المخصص للضيوف والأصدقاء والجيران ، ويطلق عليه بـ (الديوانية) أو (گبّة الخطار) . و(الدخلاني) وهو المكان المخصص لبقية أفراد العائلة ، ويطلق عليه (الحرم) .
وتسمى (الغرفة) بـ (الحجرة) أو (الگبّة) المأخوذة من القبة . وتتألف الغرف الفارهة والغرف النموذجية ذات طول 4 ـ 7 ذراع وعرض 3 ـ 4 ذراع وارتفاع 3 ـ 4 ذراع ، وتغطى بسقوف مؤلفة عادة من الخشب والقوغ وجذوع النخل القديمة ، وانها تفضل في الاستعمال بسبب تعرضها لمواد تجعل صعوبة وصول الحشرات اليها . وفي الطابق الأول يكسى سقف كل غرفة بحصيرة ذات الوان ونقوش زاهية ، وهي مصنوعة من قصب البردي المكبوس ، حتى تمنع تسرب التراب من السقف .
أما باب الغرفة فانها تقع الى الشمال طلباً للبرودة في الصيف والدفء في الشتاء ، ووقاية من الهواء الشرجي ، ويعلو الباب مشبك نصف دائري مطعم بزجاج ملون .
ويقابل فناء البيت (الليوان) وهو محل استراحة أفراد العائلة صيفاً ، ويكون موقعه حسب تصميم الدار ، وهو أبه بالغرفة المفتوحة من جهة واحدة ، ويسمى حالياً بـ (الهول) . ويوجد في فناء البيت أو في احدى زواياه حوض عميق أو حوضان تصب عليه حنفية ماء ، وفي أسفل الحوض حنفية تستعمل لغسل الأواني . وفي وسط الحوش نجد ثقباً صغيراً به (البالوعة) تفيد لتصريف المياه .
وتقع (البئر) في احد أركان الدار ، فقد كانت في معظم البيوت آبار يستقي منها الأهلون الماء الحلو ، ولولا كثرة الآبار في العهود الماضية لما استطاعت المدينة مقاومة الحصارات الطويلة التي طال أمدها الى ثمانية عشر شهراً أو أكثر ، كما حدث في واقعة المناخور في عهد الوالي داود باشا سنة 1813م ، والحصار الذي فرض على كربلاء في واقعة غدير دم في عهد الوالي نجيب باشا سنة 1843م .
ويتم جلب الماء من البئر ، وقد علقت على فتحته بكرة ودلو ، كما كانت الفواكه والخضروات تنزل بواسطة الدلو الى قعر البئر للاستبراد ، ويستعمل ماء البئر لغسل الاواني والملابس ورش الأرض .
أما (الحمام) فهو يقع في ركن من أركان البيت ، ومساحته متر مربع أو أكثر ، يحوي حوض ماء ، وتوقد النار تحت المشربة ثم تدخل الى الحمام فيفرغ ماؤها في اناء كبير ، وهنا تبدأ عملية الاستعمام ..
كما يطل على فناء الدار (المطبخ) أو (الموگد) حيث يُنخر من جدار المطبخ مسافة متر واحد وتفتح من أعلاه فتحه اشبه بالبادگير يخرج عبره الدخان الى الفضاء . بينما يقع مخزن الحطب خلف الموگد . وفي المطبخ يصف طابوق يميناً ويساراً على هيئة مثل ينتصب عليها القدر ، وتنشأ فجوة تحت القدر لأضرام النار بواسطة الخشب والسعف والعيدان لأجل طهي الطعام .
أما (السرداب) جمعه سراديب ، فلا يخلو منه البيت الكربلائي ، ويستخدمه الناس لقضاء ساعات القيلولة في موسم الصيف القائظ . ويكون السرداب منخفضاً عن أرضية فناء الدار بمقدار (10) أو (15) پايه أي درجه ،وسقفه معقود بمقرنصات بديعه ، وفي منتصف السرداب توجد فتحة ترتبط بممر يؤدي الى فناء الدار ، تعرف بـ (الزنبوره) تغطى بشباط ، والغرض منها انتقال الهواء من السرداب الى فناء الدار . وفوق الزنبورة تثبت مروحة من قماش تربط بالحبال معلقة في سقف السرداب ، يقوم بتحريكها أحد أفراد العائلة أو الخادمة ان وجدت ، فتجلب لهم الهواء وعلى جدران السرداب تقع (البادگيرات) جمع (بادگير) وهي كلمة فارسية مؤلفة من مقطعين (باد) أي هواء و(گير) أي جالب أو ساحب ، ويراد بها منافذ تهويه ، وهذه البادگيرات عبارة عن فتحات داخل الجدار وفوهتها في أعلى السطح ، تنقل الهواء من الأعلى عبر هذه الفتحات الى أسفل السرداب .
ونلاحظ وجود حباب الماء الصغيرة (التنگ) في اسفل البادگير لتبريد الماء . كما توضع المخضرات على المنافذ لتبريدها أيضاً . وتبلط أرضية السرداب بالطابوق الفرشي ، والبعض الآخر غير مبلط ، وقسم يبلط بالقير الأسود .
أما في الشتاء فان السراديب تتخذ مخزناً لحفظ الحبوب والغلال وبعض الحاجيات المنزلية الاخرى .
وقد يكون في بعض البيوت عدة سراديب تتصل مداخلها الواحد بالآخر مكونة حلقة تحيط بالدار من جوانب شتى ، وتفصل بينهماعقود مفتوحة ، والبعض من هذه السراديب يفضي الى بئر ماء مشتركة بين البيوت المجاورة عن طريق شباك صغير .
وهناك في المنزل سرداب صغير يعرف بـ (الخنجه) أو (نيم سرداب) وهو يشرف على السرداب الكبير ، ويكون منخفضاً عن مستوى أرضية الدار ، وفيه منافذ هوائية ، يستغل النوم فيه أوقات فصل الخريف .
أما الطابق الثاني فيبدأ بـ (السلّم) ويستعمل للصعود الى الطابق الثاني والطابق الثالث فالسطح . وهناك سلالم موزعة باتقان على جوانب البيت . ويوجد سلم واحد أو سلمين ينزلان الى السرداب .
ونلاحظ وجود (الكنجينه) أو (الكنجه) وهي فتحه داخل احدى جدران الغرف أو جنب السلم ، توضع فيها حوائج بسيطة تحت اليد .
أما (الصندخانه) فهي مخزن أو غرفة صغيرة داخل غرفة كبيرة أو مجاور لها ، تحفظ فيها الصناديق المرصعة التي تضم الملابس واللوازم الثمينة والأسلحة ، ثم (الچيل) وهو المواد الغذائية كالرز والدهن والسكر ، وكذلك الجاون والرحى والمشربة والبستوگة والطشوت وقدور الصفر والمنقلة النحاسية وما الى ذلك .
و(الطارمة) فهي الشرفة المطلّة على باحة البيت أو خارجه ، يتقدمها سياج حديدي أو خشبي يطلق عليه (المحجر) يحيط بفناء البيت ، ويعلوه آخر بالسطح . وتخصص الطارمة للجلوس وقت الفراغ ، وتكون أرضيتها مفروشة بالطابوق الفرشي .
وكانت بعض البيوت مؤلفة من طابق واحد ، والبعض الآخر من طابقين ، وتستند الطوارم على أعمدة خشبية زخرفت تيجانها بالنقوش البديعة ، وهذه الأعمدة تعرف بـ (الدلگات) ويعلوها المحجر .
وفي الغرف العليا تطل شبابيك خشبية على فناء الدار أو خارجه ، وتكون متحركة ترفع الى الأعلى احياناً ، وهي مزينة بنقوش جميلة ومطعمة بزجاج ملون ، حتى اذا أشرقت الشمس في داخل الغرف عن طريق الشبابيك (الأراسي) ظهر لأشعتها بريق .
ومعظم تلك البيوت الكبيرة والصغيرة تحف بها من داخل الغرف (الروازين) جمع رازونه ، أو (الرف) وهي كوّه صغيرة تفتح في الجدار ، وما أكثرها في الغرف ، توضع عليها اللالات والقرآن الكريم وحوائج منزلية صغيرة .
وتطل على الزقاق الشناشل (البنجرات) (جمع بنجرة) وهي قضبان من الشيش تقف عمودياً الى خشبة عليا مرتكزة في الجدار ، وأخرى تستند الى الرازونة ، وفي الصيف تُصَف (تُنگ) الفخار على الشبابيك من أجل تبريد مائها . ويذكر جون بيترز الذي زار كربلاء سنة 1890م أنه نظراً لشدة الحرارة كانت تعلق على الشبابيك في البيوت العامرة طبقات من العاقول المنقع بالماء .
وقد تفنن النجارون في صنع زخارف الشبابيك وريازاتها ، والحفر على الخشب مما تضفي على الغرف جمالاً أخاذاً . وتزين سقوف الغرف العليا بزخارف بديعة الصنع منها المقرنصات ، وتظهر بأشكال زاهية للغاية تختلف في شكلها وحجمها ، ومما يزيد من روعتها وبهائها تزين داخلها بالعناصر النباتية . وتتجلى روعة الزخارف الهندسية ومهارة الفنان العربي في أبواب الغرف الخشبية ، وغالباً ما تحتوي تلك الأبواب على زخارف بشكل أطباق نجمية لها أشرطة مطعمة بالعاج .
أما (السطح) فانه يقع في الطابق العلوي من الدار ، ويستخدم للنوم ليلاً خلال موسم الصيف هرباً من الحر الشديد ، ويلاحظ موضع الجرار (التنگ) الفخارية على (التيغ) لأكتساب بعض البرودة من الفضاء المحيط وبالسطح وليطيب شربها . وتتشابه السطوح فيما بينها وذلك لأن معظم بيوت المناطق ذات ارتفاع واحد ، مما يسبب تيسر عملية التنقل بينها ، جاء ذلك نتيجة للتكيّف الاجتماعي ، ولأجل انتقال النساء والأطفال الى الدور المجاورة في حالة الهجوم على منزلهم .
الى جانب ما تقدم فإن هناك بعض الدور المشيدة من قبل الوجهاء والأعيان تتألف من دارين أو ثلاث ، فالدار الأولى تخصص للضيوف ، والدار الثانية أي الوسطى فهي بيت المطبخ ، ويحوي على غرف للخدم وتهيئة الطعام ، اضافة الى وجود حب الماء المعدّ للشرب ، وكان يغطى بـ (طبگ) من خوص أو قش وقد يغطى بقطعة من قماش الململ ، ويشرب منه الماء بواسطة كاسات معدنية أو كيزان فخارية . ويكون الحب قائماً على كرسي خشبي ، وتحته اناء فخاري تتجمع فيه قطرات الماء المتساقطة من الحب والتي تعرف بـ (ناگوط الحب) . وكان الكربلائيون يعتمدون على السقائين في الحصول على شرب الماء ، وان السقائين يأتون بالماء من نهر الحسينية المتفرع من نهر الفرات ، ويتم جلبه بالقرب محمولاً على ظهور الحمير ، ثم يفرّغ الماء في الحب . ويتقاضى السقاءون أجورهم في نهاية كل أسبوع أو شهر وذلك بموجب تأشير الخطوط التي يرسمونها على الجدار .
ولا يفوت القارئ أن معظم العمائر الكربلائية زينت بالأشكال الهندسية التي تشمل المقرنصات والكتابات ، وكان للزخارف المتنوعة أثرها الشاخص في الجص والرخام والقرميد الكاشي الكربلائي المشهور والخشب وما الى ذلك . كما ان بعض الأشخاص يخصص غرفة خاصة للصلاة يزينها محراب محلى بنقوش من الجص والبورق .
شوارع كربلاء 22 / 8 / 2016 |
|
الندوات الدورية في مركز تراث كربلاء 10 / 6 / 2016 |
|
مساجد وجوامع تاريخية 23 / 6 / 2016 |
|
الحشود المليونية في كربلاء تجدد البيعة لابي الاحرار عليه السلام |
|
ماهي قصة مقام الامام الكاظم ع في كربلاء المقدسة ؟ 12 / 4 / 2018 |
|
مقام الامام المهدي ع في كربلاء ..عطر الامامة وملايين العشاق الوافدين 27 / 4 / 2018 |
|