مركز تراث البصرة
وقفة مع أعلام الفكر في البصرة (أبو الأسود الدؤليّ نموذجا)
التاريخ : 6 / 11 / 2016        عدد المشاهدات : 1751

حاولتْ بعض كُتب التأريخِ ووعّاظ السَّلاطينِ والأقلامِ المأجورةِ جاهدةً طمسَ الكثيرِ مِن منجزاتِ هذا الصحابيُّ الجليلُ على التحقيقِ، التابعيُّ على المشهورِ، لما عرف من عقيدته ومذهبه لدى العامَّة والخاصَّة، فهو واضح العقيدة والمذهب، وهو الناصحُ الأمينُ([1])، والمجاهدُ الصابرُ، والثابتُ في محبَّة أمير المؤمنين(عليه السّلام)، الراغب بما وعده ربُّه (عزّ وجَلّ) مِن جزيلِ الثوابِ، وحُسنِ المآبِ، والأمنِ يومَ الحِسَابِ .

 لذا صرَّح بتشيُّعهِ كلُّ مَن ترجَم له من الشيعة والعامَّة, وقال صاحب الوافي بالوفيات: "كان من المتحقِّقين بمحبَّةِ عليٍّ وأولادهِ ".

وفي يوم من الأيام سأل زيادٌ بن أبيه أبا الأسود عن حبِّ عليٍّ (عليه السلام)، فقال : إنَّ حبَّ عليٍّ يزداد في قلبي حدَّةً كما يزداد حبُّ معاوية في قلبك، فإنِّي أُريد الله والدار الآخرة بحبّي عليّاً، وتريد الدنيا بزينتها بحبِّكَ معاوية، ومثلي ومثلك في ذلك قول عَمرو بن معد يكرب:

خليلانِ مختلفٌ شأنُـنـــا           أُريـد العلاء ويهوى اليَـمَـنْ

أُحِبُّ دمــاءَ بني مـــالكٍ           وراق المعلّى بيـــاضَ اللَّبنْ

وقد عانى أبو الأسود الدؤلي في سبيل عقيدته كثيراً من المصاعب والتحدّيات والإغراءات والفقر والاضطهاد من المجتمع والحُكّام، فقد عانى من اضطهاد المجتمع الذي كان يعيش فيه وظلمه، فقد كان بنو قشير الذين نزل فيهم، يؤذونَه ويسبُّونَه وينالون من الإمام عليٍّ(عليه السلام) بحضرته ليغضبوه ويرمونه باللَّيل، فيعاتبهم، فيقولون: الله رماك لسوء مذهبك وقُبح دينك، فيقول: تكذبون على الله، لو رجمني الله لأصابني(  فقال في ذلك:

يقـول الأرذلـونَ بنـو قشيـــــرٍ            طَـــوال الــدهر لا تنسـى عليَّــا

فقلتُ لهم: وكيف يكون تركي            من الأعمـــال مفروضـاً عليّـــا؟

أُحِـــــبُّ محمّـداً حبّاً شــديــداً            وعبّاســـــاً وحمــزة والوصـيَّـا

بنـو عـمِّ الــرسـول وأقــربوه            أحـــبُّ النـــَّـاسِ كــلِّهــم إلــيَّــا

وكان مضطهداً من الحكَّام الذين خالفهم في العقيدة و المذهب, قال أبو الفرج في ذلك: " كان ابن عبَّاس يُكرم أبا الأسود الدُّؤلي لمَّا كان عاملاً لعليٍّ بن أبي طالب(عليه السلام) على البصرة ويقضي حوائجه، فلمّا ولي ابن عامر جفاه وأبعده ومنعه حوائجه؛ لما كان يعلمه مِن هواه في عليِّ بن أبي طالب(عليه السلام)، وقد أثبتَ في التأريخ في حقِّه ما يكفيه عزَّاً وشرفاً وفضلاً على الرغم من محاولات الطمس والتدليس، ومن أهمها شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) بأمانته ونصحه واتّباعه الحقّ, وذلك عندما أرسل أبو الأسود كتاباً إلى الإمام عليٍّ(عليه السّلام) يُعلِمُه بمخالفات والي البصرة (عبد الله بن عبَّاس)، فأجابه الإمام (عليه السّلام)، قائلاً: "أمَّا بعد فمثلُك نصح الإمام والأمَّة، وأدَّى الأمانة، ودلَّ على الحقِّ، وقد كتبتُ إلى صاحبكَ فيما كتبتَ إليَّ فيه من أمره، ولم أعلمه أنَّك كتبتَ، فلا تدع إعلامي بما كان بحضرتك، وما النظر فيه للأمَّة صلاح، فإنَّك بذلك جدير، وهو حقٌّ واجبٌ عليك، والسّلام".

فهو من أصفياء أصحاب أمير المؤمنين والسِّبطين والسجَّاد (عليهم السَّلام) وأجلَّائهم.

فقد اكتسب أبو الأسود الدؤلي كثيراً من المؤهّلات العلميّة التي جعلت أمير المؤمنين(عليه السلام) يُنيطُ إليه بمهمَّةً علميَّةً عظيمةً هي وَضْعُهُ قوانيناً لغويَّةً لصيانة كلام العرب من اللَّحن والخطأ، فقد ذكر المؤرّخون أنَّ أبا الأسود، قال: "دخلتُ يوماً على عليٍّ بن أبي طالبٍ فرأيتُه مُطرقاً يفكّر، فقلت: مالي أراك يا أمير المؤمنين مفكّراً؟

فقال: قد سمعتُ مِن بعض مَن معي لحناً، وقد هممتُ أنْ أضعَ كتاباً أجمع فيه كلام العرب، فقلتُ: إنْ فعلتَ أحييتَ قوماً، وأبقيتَ العربيّة في النّاس.

فألقى إليَّ صحيفةً فيها (الكلام كلّه: اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ، فالاسمُ ما دلَّ على المسمّى، والفعلُ ما دلَّ على الحركة، والحرفُ ما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعلٍ)، فاستأذنتهُ في أنْ أضعَ في نحوِ ما صنع شيئاً أعرضهُ عليهِ، فأذِنَ لي، فألَّفتُ كلاماً، وأتيتُهُ به، فزادَ فيه ونقصَ، وكان هذا أصلُ النحو".

كما إنَّ له اطلالاتٌ مُشرقةٌ في الحركة العلميَّة فهو أوَّل مَن نقَّط المصحفَ الشَّريفَ في وقتٍ لم يكن ذلك مبتكراً ولا معمولاً به في مجال الكتابة والقراءة  كما هو مشهورٌ بين الأعلام ، وهو أوَّل مَن ألَّف كتاباً في علم النحو ، وكُلُّ مَن كتبَ من بعدهِ كان عيالاً عليه، قال القاضي ابن البرَّاج(عليه الرحمة): "أبو الأسود الدؤلي، التابعيُّ المعروفُ، أخذ النحو عن أمير المؤمنين وكتبه في كُرَّاس وعرضهُ على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: نِعمَ ما نحوتَ.

كما هو أوَّل من أعربَ مصحفاً في وقتٍ لم يكن القرآن الكريم مُعرباً.

قال الشيخ الأنصاري(رحمه الله) في كتاب الصلاة: "إنَّ المصاحفَ كانت في الصّدر الأوّل غير معربةٍ ولا منقّطةٍ، وإنَّ أبا الأسود الدؤلي أعرب مصحفاً واحداً في زمان حكومة معاوية، وقد شهد غيرُ واحدٍ ممّن شاهد المصاحفَ موجودةً في خزانة مشهد الرِّضا(عليه السلام) بخطِّ مولانا أمير المؤمنين وأولاده المعصومين (صلوات الله عليهم)".

 كما أنَّ أبا الأسود هو أوَّل من نقَّط المصحفٌ، قال السَّيد مير محمَّدي زرندي: "والمعروف أنَّ أبا الأسود كان ينقِّط القرآنَ بلونٍ غيرِ لونِ الخطِّ"، وأضاف قائلاً: "إنَّ جرجي زيدان قال: وقد شاهدنا في دار الكتب المصريّة مصحفاً كوفيّاً منقّطاً على هذه الكيفيّة، وجدوه في جامع عَمرو، بجوار القاهرة، وهو أقدم مصاحف العالم، ومكتوب على رفوفٍ كبيرةٍ بمدادٍ أسودٍ، وفيه نُقطٌ حمراءُ اللَّون، فالنقطة فوق الحرف فتحةٌ، وتحته كسرةٌ، وبين يدي الحرف ضمّةٌ، كما وضعه أبو الأسود".

وهو أوَّل مَن حفظَ القرآنَ، قال صاحب روضات الجنّات: "وأوّل مَن حَفِظَ المصحفَ أبو الأسود الدُّؤلي", وهو أحدُ القرَّاء، قرأ القرآن على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)".

وكان من الفقهاء، بل من وجهائهم، فقد كان له رأيٌ ومذهبٌ فقهيٌّ يُرجَعُ إليهِ في كثيرٍ من أبواب الفقه, ومن الرواة ؛ لذا دوّن عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الجلودي كتاباً جمعَ فيه أخبار أبي الأسود الدؤلي، وسمّاه: أخبار أبي الأسود الدؤلي.

وهذا فضلا عن موروثه الشعري الكثير فقد كان من شعراء الإسلام الأوائل وله الكثير من الأشعارِ التي تدُلُّ على حبِّه وولائه لأهل البيت (عليهم السلام)، منها: شعره لمّا وصل إليه نبأ استشهاد أمير المؤمنين(عليه السّلام)، قام وصعد المنبر وخطب بالنّاس ونعى لهم عليّاً (عليه السّلام)، وقال:

أَلَا أبــــلِغ معاويـة بــن حربٍ         فـــــلا قرَّت عيونُ الشامتينا

أفــــي شهرِ الصّيام فجعتُمونا         بخيــرِ النــَّاس طُرَّاً أجمعينا

أما في المجال السياسي فقد اتّسمتْ حياتُهُ السِّياسيَّة بطابعِ النشاط والحيويّة، وحُسن التدبير والحنكة؛ لذا شغلَ كثيراً من المناصب الكبيرة والبارزة في الدولة الإسلاميّة، إذ تولَّى منصبَ: الكتابة، وبيت المال، وقيادة الشرطة، والقضاء، وإمارة البصرة، وقام –أيضاً- بدور المحاور الدبلوماسي في حَلحلةِ الفتنِ والصعوباتِ والأخطار التي تُحيطُ بالإسلام والأمَّةِ الإسلاميَّةِ، فقام بدور المفاوض في معركة الجمل بين الإمام علي (عليه السلام)، وطلحة والزبير وعائشة.

هكذا كانت مجمل حياة هذا العلم الفذ ، وقد عاش غير مكترثٍ ولا مبالٍ بما يلاقيه من معاناةٍ واضطهادٍ وإقصاء ؛لأنَّ إيمانَه بالتشيُّع لم يكن إيماناً ساذجاً تقليديّاً، بل كان عن علمٍ ويقينٍ ودرايةٍ ودراسةٍ؛ لذا بقي ملتزماً به حتَّى وفاته رضوان الله عليه، التي اختلف المؤرخون فيها فقال بعض أنَّه: "توفّيَ بالطاعون الجارف سنة سبعٍ وستّين، وقال آخرون أنَّه :" ماتَ بالطاعون الجارف سنة تسع وستّين وقال ثالثٌ  انَّه : "مات قبل ذلك.

لكن مع ذلك فقد اتّفقوا على مدّة حياته، فقالوا انه عاش خمسا وثمانين سنة, عاشها (رضوان الله عليه) صابراً ممتحناً، حتَّى أنَّهُ قال:

 

       تعــــــــوّدتُ مسَّ الضرِّ حتى ألفتهُ         

                         وأسلمني طــــــولُ البلاءِ إلى الصبرِ

 

[1] - وَردَ هذا الوصف في جوابِ أمير المؤمنين عليه السلام على كتابٍ أرسله إليه أبو الأسود الدؤليّ فجاء فيه: "أمَّا بعدُ فقد فهِمتُ كتابَك، ومثلُك نَصَحَ الإمامَ والأمَّة، ووالى على الحقِّ، وفارَقَ الجَور".  أنساب الأشراف: ص169.


الشيخ مدرك الحسون


اتصل بنا
يمكنكم الاتصال بنا عن طريق الاتصال على هواتف القسم
+964     7602326873
+964     7721457394
أو عن طريق ارسال رسالة عبر البريد الالكتروني
media@mk.iq
info@mk.iq

تطبيق المعارف الاسلامية والانسانية :
يمكنكم ارسال رساله عن طريق ملء النموذج التالي :
اتصل بنا

او مواقع التواصل الاجتماعي التالية :