تاريخ النجف

جامعة القرويين وجامعة النجف الأشرف

جامعة القرويين وجامعة النجف الأشرف

بقلم: الشيخ محمد رضا المظفر إن جامعة النجف الأشرف صنو جامعة القرويين في قدم عهدها فقد تأسست أول بناية لها في القرن الثاني الهجري وهي بناية القبر المطهر قبر سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بأمر الخليفة العباسي هارون الرشيد. ويظهر أن هذه البناية ما أسرع أن اجتذبت إليها قلوب المؤمنين من زائرين ومجاورين ـ الذين يتعطشون إلى الإنتهال من نمير روحية صاحب هذا القر والإستلهام من عقيدته الإسلامية العالية وقدسية نفسه الجبارة برغم جفاف هذه البقعة وبعدها عن العمران وهي تقع في صحراء مرتفعة قاحلة محرقة لا ماء فيها ولا كلأ إلا ما كانوا يستنبطونه من ماء أجاج في آبار عميقة الغور. ولم نتحقق إلى الآن متى كان ابتداء اتخاذها معهداً للدراسات الإسلامية ولكن إذا علمنا أنها تقع في ظهر الكوفة والكوفة كانت مركزاً علمياً مشهوداً في تلك القرون يقرب إلينا أن النجف لم تعدم في مجاوريها من يشتغل بالعلوم الإسلامية يومئذ ولم نعدم الشواهد التاريخية على ذلك، مثل بعض الإجازات العلمية التي صدرت من مدينة النجف في ذلك العهد ومثل رواية كتاب فرحة الغري عن عضد الدولة البويهي أنه لما زار النجف سنة 371هـ وزع مالاً على الفقهاء والفقراء. فذكر الفقهاء المجاورين يعطينا نصاً على وجود الحركة العلمية ولكن الحقيقة التي يجب أن تقال أنه لم يكن لها ذلك الشأن الذي يذكر في مركزها العلمي المرموق ومرجعيتها للتقليد إلا في أواسط القرن الخامس الهجري وذلك بعد ما هاجر إليها من بغداد حوالي سنة 448هـ الشيخ أبو جعفر بن الحسن الطوسي العظيم المعروف بشيخ الطائفة صاحب الموسوعات والمؤلفات الخالدة في الحديث والتفسير والفقه وغيرها. إن هذا الرجل من عظماء التاريخ فيما ألف وأسس. وكفى أن يكون له أصلان كبيران من الأصول الأربعة هما كتاب التهذيب وكتاب الاستبصار، وكفى أيضاً أن يكون لهذا الشيخ تأسيس المركز العلمي للنجف. أعود فأقول إن تاريخ النجف العلمي ومركزها الحساس عند الإمامية يبتدئ من ذلك العهد واستمرت معهداً للدراسات الإسلامية بين مد وجزر حتى أوائل القرن الثالث عشر الهجري حيث ألقت المرجعية العامة للتقليد عصا ترحالها في النجف وذلك بنبوغ المجتهدين الكبيرين السيد محمد مهدي بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء بعد أن جابت عدة بلاد في فترات متباعدة كبغداد والحلة وكربلاء وأصفهان. ومن هذا العهد الأخير كثرت البنايات لسكنى الطلاب المهاجرين إليها من مختلف البلاد النائية وهذه البنايات هي التي تسمى بالمدارس وهي أشبه ما تكون بالأقسام الداخلية، وهي عندكم في القرويين، ببلغ الموجود منها الأن قرابة 30 مدرسة كبيرة وصغيرة بعد أن كانت بناية صحن الحرم العلوي هي المأوى الكبير لهم من أبعد العهود وبعض المدارس التي اندثرت. وفي النجف اليوم حوالي خمسة آلاف طالب من مختلف الأقطار الإسلامية، كالهند وإيران وأفغانستان وباكستان والتبت وما إليها، وتقوم المرجعية العامة بتعيين جرايات شهرية لكل طالب وتعتمد في مواردها المالية على الحقوق الشرعية التي يدفعها المؤمنون في مختلف الأقطار بعض التبرعات من المحسنين وليس للمرجعية أي مورد حكومي ولا علاقة لها بالحكومات على اختلافها في شؤونها الخاصة والعامة مادية أو غيرها. وأهم شيء يحسن ذكره بعد الإشارة إلى تأسيس النجف هو نوع دراستها وأسلوبها لتسهل المقارنة عندكم بجامعة القرويين الجليلة. فإنها لا تختلف كثيرا عن سائر الجامعات الإسلامية القديمة في نوعية التدريس للعلوم العربية إليها في كونها دراسة خصوصية لا صفية وكذلك في اختيار الكتب ولا تزال على الأسلوب القديم في ذلك. وإنما ص تمتاز جامعة النجف بطريقة تحصيل الاجتهاد في الفقه الذي تختص بفتح بابه الإمامة. وغاية الطالب الديني القصوى أن يبلغ هذه الدرجة العليا التي لا ينالها الا ذو حظ عظيم. ولذلك تمر على الطالب ثلاث مراحل تدريسية لبلوغ هذه الغاية: المرحلة الأولى: مرحلة دراسة (المقدمات) كما يسمونها والمقصود بالمقدمات النحو والصرف وعلوم البلاغة والمنطقة وهي تقرأ في كتب لا يتجاوزنها إلا نادرا كشرح قطر الندى وشروح ألفية ابن ملك ومغنى اللبيب في النحو والشمسية وغيرها في المنطق وهذه الكتب التي ذكرناها هي نفسها التي تدرس في جامع الأزهر وجامعة القريين ـ فيما نظن ـ وتختص النجف بكتب اخرى في بعض هذه العلوم لا سيما المتون الفقهية كالشرايع للمحقق الحلي وشروح هذا الكتاب كثيرة. وقد وضع محدثكم كتابا في المنطق بثلاثة أجزاء بدلا من الكتب القديمة بأسلوب سهل جديد وعبارة واضحة وضعته لكلية منتدى النشر قبل أكثر من عشرين عاما وكاد أن يعمم تدريسه الآن في معاهد النجف. ونوعية الدراسة في هذه المرحلة دراسة فردية على الأكثر وربما اشترك فيها أكثر من طالب واحد فيشكلون حلقة صغيرة، وللطالب الحرية في اختيار المدرس ، بل الكتاب وليس والمدرس حرية النقد والمناقشة وطبعا تكون الحرية في هذه المرحلة محدودة بالقدر الذي يسعه افق الطالب وتفكيره والغرض منها الوجيه والتمرين على قوة الملاحظة . وكثيرا ما ينضم إلى هذه المرحلة دراسة علم الكلام والعلوم الرياضية وبعض العلوم العربية الأخرى كعلوم العروض والقافية والبديع والنصوص الأدبية . وهذا كله حسب رغبة الطالب واستعداده في المشاركة بهذه المعارف ونحوها. المرحلة الثانية: مرحلة دراسة (السطوح) كما نسميها وهي دراسة متن الكتب الموضوعة في الفقه الإستدلالي وأصول الفقه ويتبع فيها محاكمة الآراء ومناقشتها بحرية كاملة .وعلى الأكثر تجري هذه المرحلة على أسلوب الحلقات حيث يجتمع أكثر من طالب واحد في مجلس أحد المدرسي المعروفين ويختلف عدد الطلب في كل حلقة حسب اختلاف شهرة المدرس في تفوقه في أسلوب التدريس وسعة اطلاعه . كما أن الحرية مطلقة للطالب في اختيار الكتاب والمدرس والكتب التي يرجع إليها للمطالعة في حدود جرت عليه. وأهم المعروفة كتاب معالم الأصول وقوانين الأصول ورسائل الشيخ الأنصاري وكفاية الأصول هذه في أصول الفقه. وقد وضعت كتابا في الأصول على نمط كتابي في المنطق يدرس الآن في كلية الفقه عندنا . أما الكتب الاستدلالية في الفقه فا شهرها شرح اللمعة الدمشقية الذي هو كتاب ابتدائي في الاستدلال وبعده كتاب رياض العلماء والمسالك ثم المكاسب للشيخ الانصاري وهناك مراجع أخرى كثيرة أوسع دائرة وبحثنا لا يستغني عنها الطالب الباحث . وإذا انتهى الطالب من هذه المرحلة بإتقان استحق ان يسمى(مراهقا) أي مقاربا لدرجة الاجتهاد. وقد ينضم الى هذه المرحلة دراسة علم الكلام والحكمة والفلسفة الإلهية والتفسير والحديث واصول الحديث وعلم الرجال. وهذه المرحلة وما قبلها قد يجتازها الطالب في عشر سنين فأكثر في جد متواصل مضمن وهي مرحلة شاقة يضطلع فيها كثير من الطلاب فيتوقف عن الركب المغد وبالأخير لا يلحق بالطليعة الداخلة الى باب الاجتهاد الذي لا يتوفق له الا اسعد الناس. وقد لمس كثير من المفكرين صعوبة هذه المرحلة فوجدنا ان من الجدير بنا ان نسعى الى فتح كلية منظمة لنتلافي بها كثيرا من النواقص التي يشتكي منها وذلك بتبسيط بعض الكتب وتنظيم المناهج والدروس والامتحانات وهكذا تم لجمعية منتدى النشر ان تفتح(كلية الفقه) لتخريج طلاب لهم الاستعداد الكافي لحضور مجالس دروس كبار المجتهدين بالإضافة الى القيام بواجب الدعوة الى الدين الإسلامي وتبليغ مبادئه بمنابرهم واقلامهم وقد اضيف الى دروس المعارف الإسلامية المعروفة دروس في الاجتماع وعلم النفس والتربية والفلسفة الحديثة والتاريخ الحديث والتاريخ الحديث والفقه المعارف العراقية بنظام هذه الكلية ودرجتها العلمية الى لغة اجنبية واحدة ومن سنتين تم اعتراف وزارة المعارف العراقية بنظام هذه الكلية ودرجتها العلمية(درجة الليسانس). وهذه الكلية لا يدرس فيها الا حملة اجازات الاجتهاد من كبار المجتهدين او حملة الشهادات الجامعية من الجامعات المعترف بها. المرحلة الثالثة: مرحلة (بحث الخارج) وهي حضور مجالس دروس كبار المجتهدين في الفقه وأصوله. وهذه هي آخر مراحل الدراسة التي قد يبلغ الطالب درجة الاجتهاد وهي أعلى ما في النجف من دراسات عالية وبها امتياز هذه الجامعة عن جامعات العالم الإسلامية في أسلوب التدريس وفي حرية المناقشة والرأي وفي درجتها العلمية العالية. تكون هذه المرحلة عادة في دورات يتولاها كبار المجتهدين ويبتدئ المدرس منهم دورة أصولية أو فقهية يلقيها بشكل محاضرات يومية فيشرح المسألة شرحاً وافياً بعرض الأقوال من مختلف المذاهب الإسلامية ومناقشة الآراء فيها وأدلتها ويختار ما ينتهي إليه رأيه مع الدليل. ولكل مدرس طريقته الخاصة في أسلوب البحث وسعة المنهج والأسس العلمية التي يعتمدها. وهذه الدورات لا تكون إلا جماعية يحضر فيها عدد كبير من الطلاب قد يزيد في بعض الظروف على ألف طالب وذلك تبعاً لشهرة المدرس في تفوقه العلمي ودقة منهجه وأسلوب تدريسه. وسميت بـ(بحث الخارج) نظراً إلى أن التدريس فيها لا يعتمد على رأي خاص ولا عبارة كتاب معين إلا ما قد يتخذ منها للبحث لتسهل على الطلاب المراجعة للتحضير قبل الدرس. والطلاب في هذه الدورات لهم كامل الحرية في المناقشة والرأي أثناء المحاضرة وبعدها وكثير من طلابها يكونون مجتهدين في أنفسهم حتى قيل إن المجاهد الأكبر أستاذ أساتذة هذا الجيل الشيخ محمد كاظم الخراساني صاحب الكفاية المتوفى سنة 1329هـ كان يحضر درسه من المجتهدين حوالي ثلثمائة طالب مجتهد. وعلى كل فإن ميزة هذه الدورات عمق البحث ودقته وسعة أفقه والحرية الكاملة في نقد الآراء ومناقشتها مهما كان صاحبها. وبهاذ الأسلوب يغذي الطلاب ليتمكنوا من الاعتماد على آرائهم والثقة بنفوسهم ليصبحوا مجتهدين يرجع إليهم الناس وتقلدهم الأمة في أمورها ويقودونها إلى الخير والسعادة. وإلى هذا النهج الدراسي يعزى السر في تطور الدراسات الفقهية والأصولية في هذه الجامعة عبر القرون. ومن يقرأ كتاباً في الفقه وأصوله لأحد أعلام القرن الرابع والخامس مثلاً ثم يقرأ كتاباً فيها لأحد أعلام هذا القرن يلمس مدى التطور الذي بلغه البحث في دقته وأسلوبه. وحسبنا في ختام هذه الكلمة أن نسجل لجامعة القرويين وإخواتها الجامعات الإسلامية نضالها في الحفاظ على لغة القرآن الكريم وأدبياته وعلومه بعد أن مرت البلاد الإسلامية بقرون مظلمة كادت تقضي على الإسلام واللغة العربية من الأساس. وإني لمتفائل جداً بهذا الوعي الإسلامي العام في هذا الظرف بالذات وهذا التجاوب بالشعور بالحاجة إلى التآخي والاتفاق والنهوض بأمتنا إلى المستوى اللائق بها في هذه الأرض التي أخذت علينا من أطرافها. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله (1) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الكتاب الذهبي لجامعة القرويين صفحة (76- 79). المصدر: الأنسكلوبيديا العلوية ج13، ص338

صور من الموضوع ...

نأسف ، لاتتوفر اي صور عن هذا الموضوع حاليا.

لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثوان ...

جاري التحميل ...